سيدة نساء الشرق
لقد أماتوها قبل ذلك مائة مرة على أقل تقدير، تماما كما فعلوا مع صباح وغيرهن من النساء اللاتي لسن كغيرهن من النساء. فالمرأة عندما تحب الحياة وتستطيع لها سبيلا وتنتصر لها يودون دوما قتلها أو موتها (على أقل تقدير).
لأن هؤلاء يكرهون الحياة كراهية التحريم. ويكرهون البشر وأنفسهم ما استطاعوا للكراهية سبيلا. ويمقتون المرأة وكأنها الطاعون ويشتهونها في الخفاء ويحتقرونها في قرارة أنفسهم، لأنهم يخافون منها يعرفون كم هم منبطحون أمامها وأمام غرائزهم التي ينكرونها بتعالٍ أحمق، فيتحول الكبت الكامن في الأعماق بمرور الوقت لطاقة كراهية وغل، حتما تتشكل لاحقا على هيئة سلوك عنيف.
هم يتمنون الموت للنساء جميعًا ليبقوا هم جوعى وعطشى ويتفرغوا لتدمير الأرض وإفسادها!
لقد أمات الجوعى والعطشى الدكتورة نوال السعداوي مائة مرة وهي على وضعها وعلى قيد الحياة تنظر إليهم ولا تراهم فهي دوما الأعلى، وهم قد اختاروا الجحور طواعيةً دون إلزام. اختاروا أن يقبعوا في غياهب القاع وأدمنوا المكوث في أسفل السافلين.
لم تؤثر هي الرحيل بل آثرت أن تعيش وقدر الإله لها البقاء لتؤدي مهامها على أفضل ما يكون
وعلى الباقين أن يكملوا ما رسخت له طوال سنين تكبدت فيها ما تكبدت.
أتحدث اليوم عن ذلك الهرم وذلك الكيان الأنثوي الشامخ الدكتورة نوال السعداوي.
إنها هرم أنثوي لن تجد له مثيلا في البلاد ووسط العباد وصخبهم المهدر وصياحهم الأجوف.
لن أتحدث عن الأنثى فالإناث كثر ولكن ما يمكن تسميته بـ(المرأة) فلسن بكثيرات.
لقد قضى المتأسلمون دهرا وأفسدوا أعمارا وأهدروا عقولًا وأفئدة وطاقات في هجاء سيدة يندر أن يجود
الزمان بمثلها.
سيدة لم ينلها من هجائهم شيئًا، بل نالنا نحن مريديها ومحبيها.
كراهيتهم وخوفهم منها لم يطالها بل طالنا نحن وأفسد علينا حيواتنا لسنين طويلة.
سيدة لم تتوقف يومًا عن المضي والمسير. سيدة لم تستخف بنفسها أو بعقولنا. سيدة أحبتنا أكثر مما أحبت نفسها، أعطتنا أكثر مما أعطت لفلذات كبدها.
سيدة احترمت عقولنا فجازيناها بكراهية تاريخية ألصقت بها ولم تتركها وهي لم تهن ولم تحزن ولم نستطع نحن ولليوم رد ولو ذرة من جميلها على نساء الشرق كله.
سيدة أخذتنا وأخذت الحياة كلها على محمل الجد ولم تتربح ولم ترابِ. لم تهدر وقتا أو طاقة في عبث.
سيدة لم تسطح الأشياء ولم تشيء نفسها، سيدة لم يعنِها التصنيف ولم تستغل صدفة لتعلو، ولم تقفز فوق أجسادنا ولم تبعثر لحومنا.
سيدة وضعت وصكت نظريات وأخلصت لكل ما وضعت وصاغت وصكت وكتبت بل وفعلت.
سيدة تصدت لإيديولوجيات وثقافات وتابوهات منحطة. سيدة واجهت مجتمع بأسره. سيدة حاربت وحدها ببسالة، وفاقت شجاعتها أطنانًا من الذكور المتراكمة والمترهلة كاللحوم الفاسدة.
سيدة تصدت للمجتمع الذكوري ولم تستفد من ذكوريته لتعلو هي بأنوثتها. لم تتاجر بلحمها ولا بلحم غيرها.
عافت الجسد ووضعته في نصابه الطبيعي والصحيح.
لم تكن مختلة أو حمقاء كما يصفها الحمقى الموتورون.. لم تكن كغيرها من الحمقاوات الشقراوات والحمراوات اللاتي يظهرن وتطل علينا هذه وتلك بخبل وحمق منقطع النظير لمجرد الظهور، يركضن كالفراشات الضريرات نحو النور حتى يقضي النور عليهن بسطوته وعنفوانه الهادر.
سيدة واجهت وتصدت لكل أنواع الحمق ببسالة وترفع.
غالت في نضالها واستبسالها حتى انهالت عليها اللعنات من الحمقاوات والحمقى.
سيدة كانت هي العدو الأول لهؤلاء لأنها كانت دوما في المقدمة وكانت رأس حربتنا في حربنا الأصيلة غير المفتعلة في هذا العالم المتكلس.
كانت نبراسًا منيرًا أنار الظلمات فتهافتت الأسيرات نحوه وجئن من كل فج عميق بعد أن استفقن على كلماتها.
سيدة أفاقت العقول والأفئدة وحررت السجينات في مجتمعات اعتادت الظلمات واعتادت على التخفي في عباءات مختارة أو مفروضة عليها ورضيت بذلك.
سيدة لم تعرف لها الهزيمة دربًا أو طريقا، وكان الفشل يهرب منها ويهرول بعيدًا عنها. سيدة اجتذبت كل الطاقات الإيجابية، وسارت عكس كل ما كان سائدًا من قيم ومعتقدات وأفكار وعادات بالية عطنة
سيدة حطمت الأصنام فثار عباد الأصنام عليها، وسن كل واحد منهم سكينه وسيفه وخنجره ليطعن سيرة تلك السيدة ولم يطالها شيئًا من كيد وكراهية هؤلاء.
المكائد والهجاء كانا وقودها وزادها الذي حملته معها طوال رحلتها لتستكمل المسير.
أدركت منذ البداية أن الطريق طويل وأنه ملغم ومحفوف بالأفخاخ والمصاعب والمصائب ولم يفت ذلك في عضدها بل شحذ ذلك من همتها واستبسالها الذي لم يتوقف ولو للحظة.
سيدة لم تحِد عن بوصلتها، ولم تغرها المغريات كما لم تؤثر فيها أو عليها الصعوبات، سارت ثم سارت وظلت تسير ولم تسقط أو تتلعثم وحتى عندما ابيضت عيناها فكأنها أراحتهما من رؤية كل تلك الوجوه العكرة التي طالتها طوال مسيرتها بكل سوء.
بوركت سيدة نساء الشرق
وسلام لها وعليها يوم مولدها
وسلام لها وعليها وهي في أحضان وقلوب كل من ناضل وعافر وقاوم ولم يستسلم، فلتلك السيدة في قلوب وعقول وضمائر وأفئدة الناس الكثير وستظل دومًا في البال والذاكرة نور ينبر الروح ويشبع العقل وينعش الذاكرة لتستفيق الضمائر.