أقباط ومسلمون.. المشترك الشعبى «1-2»
تهتم مراكز البحوث ودوائر صنع القرار فى الغرب بموضوع الأقليات فى الشرق الأوسط، وربما نجد على مواقع البحث الإلكترونى عشرات الكتب والدراسات حول هذا الشأن، ومن أهم مخرجات هذه الدراسات أن هذه المنطقة أخفقت بشدة فى إرساء مبدأ المواطنة، والوصول إلى الدولة الوطنية الحقة، وبالتالى فتاريخها ما هو إلا تاريخ «موزايكو»، أو قطع متناثرة، أو مجتمعات متجاورة ولكنها متنافرة، لذلك يعتبر مدخل «الأقليات» من المداخل الأثيرة لدى الباحث الغربى فى تناوله للمنطقة.
وبطبيعة الحال لسنا ضد المدخل العلمى لدراسة «الأقليات»، فهو من المداخل المهمة فى الدراسات التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية، ولكننا لسنا مع توظيف هذا المدخل لتعميق الخلافات الداخلية وتجزئة المجزأ، وإجهاض حلم الوصول إلى الدولة الوطنية. ولا يدخل كلامنا هذا فى مجال الحديث عن نظرية المؤامرة، التى لا نقبل التهويل من شأنها، لأن فى الركون إليها إلقاء المسئولية على الغير، والبكاء على اللبن المسكوب والحلم الضائع. لكننا لا ننسى أيضًا أن الاستعمار لعب دورًا مهمًا فى هذا الشأن، هل نسينا بريطانيا ودورها السيئ أثناء ثورة ١٩١٩ فى مصر، ألم يكن مبدأ «حماية الأقليات» أحد التحفظات الأربعة لبريطانيا فى تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢؟!، لكن من ناحية أخرى علينا أن نسأل أنفسنا: رحل الاستعمار عن منطقتنا، فلماذا لم تنجح الدولة الوطنية فى إرساء مبدأ المواطنة والاستفادة من مظاهر التنوع الخلاق، وتأسيس الدولة الوطنية على هذا الأساس: مواطنة واحدة وتعددية ثقافية واجتماعية؟!.
تدور هذه الأفكار فى ذهنى دائمًا وأنا أطالع خريطة وتاريخ منطقتنا العربية، ولنبدأ بالعراق الشقيق، بلاد الرافدين، الذى حباه الله بالرافدين، دجلة والفرات، وثروة نفطية هائلة، كانت تؤهله ليكون من أغنى البلاد العربية، لكن دخلت الدولة الوطنية فى صراع حاد ومزمن مع الشمال الكردى، أنهك الدولة وحرم الأكراد من الاستفادة من خيرات الشمال، وضرب فكرة الدولة المركزية فى مقتل. ومع سقوط صدام ونظامه الديكتاتورى الذى حاول إخفاء الإخفاقات والتناقضات بقوة الحديد والنار، ومع التدخل الأمريكى السافر وسقوط بغداد، اندلع البركان وظهرت على السطح تناقضات عديدة عززت للأسف الشديد التوجه الطائفى، وكبلت وصول العراق الشقيق لدولة المواطنة، ولعل الانتفاضة الأخيرة ضد الطائفية والتدخلات الأجنبية تنبئ بميلاد جيل جديد، هو الجيل الساعى لعراق الدولة الوطنية والمواطنة.
ربما ينطبق الشىء نفسه على لبنان العزيز، الذى أنهكته الحرب الأهلية، والمحاصصة الطائفية، والتدخلات الأجنبية، ولذلك كانت الانتفاضة الأخيرة من أجل لبنان المواطنة.
سألت نفسى: لماذا لم تعرف مصر عبر تاريخها ظاهرة الحروب الأهلية، أو حتى النزاعات المسلحة لطائفة عرقية ضد الدولة المركزية؟! ربما يرى البعض فى نهر النيل والحاجة لحكومة مركزية لتوزيع مياه الرى سببًا وراء ذلك، ونحن نرى أنه بالفعل من أسباب ذلك، لكنه ليس السبب الوحيد، بل ولعله ليس الأهم.
وفى رأينا أن أهم أسباب ذلك التجانس الفريد هو المشترك الشعبى بين عنصرى الأمة المصرية- وهو التعبير المستخدم أثناء ثورة ١٩- الأقباط والمسلمين، الأصل الواحد والنهر الواحد والوادى الفسيح الممتد من جنوب أسوان حتى الإسكندرية، كل ذلك أفرز لنا «المشترك الشعبى» بين الأقباط والمسلمين، والذى ينعكس فى تفاصيل الحياة اليومية.
دار ذلك كله فى ذهنى وأنا أطالع هذا الكتاب الصغير والفريد لمينا عادل جيد «كنت طفلًا قبطيًا فى المنيا»، فهو محاولة لتقديم الإجابة- بشكل غير مباشر- عن هذا السؤال: ما السر وراء تماسك بنية المجتمع المصرى؟
إنه «المشترك الشعبى الواحد».