مصر- ليبيا والمصير المشترك
بدأت مؤخرًا بوادر مؤشرات إيجابية فى تحقيق المصالحة الليبية بين الأطراف المتنازعة هناك، وذلك فى أعقاب الجهود التى تبذلها مصر لرأب الصدع بين تلك الأطراف واحتواء عناصرها المتناحرة.. وتسعى العديد من الدول، وفى مقدمتها تركيا تحديدًا، إلى العمل على الاستمرار فى تأجيج تلك الصراعات بين هذه الأطراف، وتكريس الانقسام بينها، وإفساد أجواء المصالحة بإشعال الخلافات واستمرار الدفع بالسلاح والمرتزقة والعناصر الإرهابية إلى الغرب الليبى، وذلك لتحقيق أطماعها الاقتصادية من الثروات الليبية.. وهو ما تصدت إليه بكل حسم وقوة الدولة المصرية، حيث قام السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى باستضافة العديد من القيادات الليبية، بل وأيضًا القبائل العربية الليبية، لوضع ثوابت يتم من خلالها إيجاد حلول للمنازعات بين الشعب الليبى الواحد، حفاظًا على وحدة الأرض وعلى دماء أبناء هذا الشعب الشقيق.
فدائمًا ما يمثل الشأن الليبى أهمية قصوى بالنسبة للأمن القومى المصرى بحسبان أن ليبيا تمثل العمق الاستراتيجى الغربى للدولة المصرية، كما أنها ترتبط تاريخيًا معنا بروابط الدم والمصاهرة والتاريخ.. إلخ.
وبعيدًا عما تشهده الساحة السياسية والحزبية المصرية حاليًا، كانت هناك مباحثات شاقة تستضيفها القاهرة لمناقشة المسار الدستورى الليبى، برعاية مصرية وتحت إشراف الأمم المتحدة، شارك فيها وفود من مجلسى النواب الليبى والأعلى للدولة والهيئة الدستورية، وكانت الكلمة التى ألقاها السيد الوزير عباس كامل ميثاق عمل مبدئى لتلك المباحثات، حيث أكد تمسك مصر بمسار التسوية السياسية كحل وحيد للحفاظ على ليبيا وإعادة بناء دولة موحدة، وأنه قد حان الوقت ليكون لليبيا دستور يحدد الصلاحيات والمسئوليات، حتى يتمكن الليبيون من مساءلة المسئولين ومحاسبة المقصرين، بمن فى ذلك من يستغل منصبه لتوجيه موارد الدولة الليبية لدعم الإرهاب بدلًا من تحسين الأوضاع المعيشية.
كانت الإدارة المصرية على عهدها دائمًا فيما يتعلق باهتمامها بالدولة الليبية وحرصها الشديد على استقرارها، ومن هذا المنطلق فقد كانت هناك ثوابت تمحورت حولها تلك المباحثات، حيث تدخل السيد الوزير عباس كامل شخصيًا أكثر من مرة لتذليل أى عقبات أو عوائق عندما كانت تتصادم وجهات نظر المشاركين معًا، إلى أن تم وضع العديد من الرؤى المشتركة بينهم جميعًا، ولاقت قبولًا واستحسانًا من ممثلى بعثة الأمم المتحدة المشاركة فى تلك المباحثات، وأيضًا قبولًا وتأييدًا من الجانب المصرى.. حيث كان التمسك بالقيم والمبادئ الوطنية، المتمثلة فى وحدة التراب الليبى واستقلال وسيادة وحرمة الدم الليبى، هو الأساس الذى بنيت عليه نتائج هذه الاجتماعات، والتى كان من أبرز نتائجها ضرورة التوصل إلى آليات محددة لتثبيت وقف إطلاق النار، والدفع بعملية السلام تحت إشراف الأمم المتحدة، والتأكيد على ضرورة الإعلان عن خارطة طريق تحدد تواريخ كل مرحلة من المراحل التى تم الاتفاق عليها، حيث جاءت فكرة تحديد موعد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية فى مدة لا تتجاوز شهر أكتوبر ٢٠٢١ من أهم ما تمخضت عنه نتائج تلك المباحثات، حيث تضمن الاتفاق إعادة هيكلة المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق، مع تعيين رئيس حكومة مستقل، ومعالجة القضايا المتعلقة بكفاءة إدارة توزيع موارد الثروات الليبية ضمن آليات اقتصادية تحقق مبدأ اللامركزية وتضمن رفع المعاناة عن الشعب الليبى، والتأكيد على ضرورة إنجاز مشروع المصالحة الوطنية وتحقيق العدالة بما يضمن عودة الليبيين لوطنهم، ومعالجة الخلافات بينهم، مع ضرورة استمرار التعاون مع الإدارة المصرية لمساندة الأشقاء فى ليبيا للوصول إلى حلول عملية لإنهاء الأزمة الليبية، من خلال التواصل الفعال مع كل الأطراف الليبية دون استثناء.
كان من الواضح أن هناك ارتياحًا كبيرًا لدى جميع الأطراف الليبية المشاركة فى هذه المباحثات، حيث أعربوا جميعًا عن رغبتهم فى عقد جولة ثانية فى مصر لاستكمال المناقشات البناءة حول الترتيبات والتوافقات الدستورية التى تسمح للبلاد بالمضى قدمًا نحو الاستقرار السياسى والمجتمعى والاقتصادى، بل وفى جميع المجالات الأخرى.
ونتيجة لتلك الجهود، فقد دعت الخارجية الليبية إلى عقد لقاء يجمع القبائل الليبية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى فى مدينة «سرت» الليبية للتباحث حول البدء بمبادرة للمصالحة الوطنية، تهدف إلى رأب الصدع الاجتماعى والانقسام السياسى، وإنهاء حالة الصراع والاحتقان، وإعادة الأمن والاستقرار للبلاد، وتحمل رسالة للسلام والعيش المشترك والتأسيس للمستقبل، وصياغة وثيقة مرجعية وطنية تسهم فى حل الأزمة الليبية على خلفية الجهود المصرية المخلصة فى هذا الشأن.
وهكذا تثبت الأيام أن مصر ما زالت هى الدولة والشقيقة الكبرى للدول العربية مهما حاولت القوى الدولية أو الإقليمية التأثير على هذا الدور بالإغراءات والوعود المختلفة، حيث ثبت بالتاريخ والدليل القاطع أن مصر هى الدولة العربية الوحيدة التى تقدم خبراتها ومساندتها لأشقائها العرب بكل شرف وأمانة، فى وقت عزّ فيه الشرف والأمانة. تحية لذلك الجهاز العريق الذى أسهم فى إنجاح تلك المباحثات، ولقيادته الواعية التى بذلت جهدًا كبيرًا طوال فترة انعقادها لقناعتها الكاملة بأن الأمن الليبى يمثل جانبًا مهمًا من الأمن القومى المصرى.
وتحيا مصر.