نرمين يسر تكتب: «السقا مات» ورمزية الموت والحياة
في العام 1920، وفي حي الحسينية حيث يقع صنبور المياه العمومي، وأمام كشك سيد الدنك، المانح المانع لحصص المياه في "درب السماعي"، تدور واحدة من أعظم مائة قصة عربية؛ حيث تتنوع الحكايا ومفرداتها، بين نساء يتراصصن في الطابور وهن يحملن الصفائح الفارغة في انتظار دورهن لملئها، ورجال يتصارعون على أحقية الوصول إلى الصنبور.
من هذا الصنبور تبدأ قصة "السقا مات"، والذي- حقًا- لم يمت.
ألّف يوسف السباعي روايته "السقا مات"، والتي صدرت في العام 1952 عن دار النشر للجامعيين، واعتبرها النقاد أهم أعماله؛ والتي تدور حول الحارة المصرية في عشرينيات القرن الماضي، حيث ذلك العالم الساحر للحارة المصرية القديمة التي كانت لها قوة من الإلهام والإيحاء بالعديد من الأفكار الفلسفية؛ فشخصيات أهل الحارة مختلفة، ومتنوعة، وثرية، وتحمل من الزخم ما يُغري الكُتّاب للكتابة عنهم، وتدفعهم لأن يتفننوا في استكشاف خبايا نفوس تلك الشخصيات وتفاصيلهم.
في تلك الرواية البديعة، نجد "شوشة السقا" الذي يعاني مرارة فقدان زوجته، واتجاه تفكيره ناحية فلسفات الموت والحياة، وأسرار الوجود والتكوين، خاصة عندما التقى بصديقه "شحاتة أفندي" الذي يمتهن الموت ويمارسه من خلال عمله كـ"أفندي جنازات" وهو المرادف المذكر لـ "المعددة".
من المفارقات الدرامية في الرواية أن يسكن شوشة السقا الذي يمثل الحياة كساقي يروي الظمأ بسر الحياة، مع شخص يجني رزقه من خلال المشاركة في الجنازات والبكاء على المتوفين مقابل أجر؛ وعلى العكس، فإن شحاتة يستمتع بملذات الحياة رغم عمله الذي يتعامل يوميًا مع الموت. هنا، شوشة متشائم وحزين ويفكر في الموت معظم الوقت، ومن خلال هذا التناقض تنشأ الحوارات الفلسفية والنهايات المفاجئة، مثلما نتفاجأ بموت شحاتة بدلًا من قضاء لسهرة حمراء كان قد رتب لها، يرحل الأفندي، ويحزن شوشة السقا عليه حزنًا شديدًا.
في العام 1977 أنتج الراحل يوسف شاهين فيلم "السقا مات" من إخراج صلاح أبوسيف.. ويا له من عمل استثنائي عندما يجتمع هذان الرائعان في عمل سينمائي كتبه يوسف السباعي. احتل رقم 31 في قائمة أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية طبقًا لاستفتاء النقاد بمناسبة مرور 100 عام على أول عرض سينمائي بالإسكندرية (1896- 1996)؛ كما حصل الفيلم على جائزة جمال عبدالناصر للقيم العائلية عام 1978.
وبالرغم من أن فكرة الفيلم تدور حول الموت، إلا أن سيناريو محسن زايد تناول هذه الفكرة بالكثير من الرومانسية التي عبّر عنها في ارتباط شوشة بذكرى زوجته بعد وفاتها وخطوط فرعية عدة يختلط فيها الشعوران، وعند هذه النقطة توجب الاعتراف بقدرة أبوسيف على استغلال أدوات الممثلين وتوجيههم إلى حيث أراد لهم أن يصلوا. أجاد الفنان عزت العلايلي، من خلال تعبيرات وجهه الحزينة، تقمص شخصية الرجل الذي فقد حب حياته ولم يزل وفيًا لذكراها، ليُقدّم دور مركب يجمع بين الحزن والتعايش مع الحياة اليومية بفلسفة شديدة.
شارك العلايلي بطولة الفيلم كلٌ من فريد شوقي وأمينة رزق وشويكار وتحية كاريوكا وناهد جبر؛ لذا كان من الطبيعي تغيير الأحداث، لا على صعيد تلخيص كتاب من 400 صفحة فقط، بل أيضًا على صعيد نقل أحداثه من النصف الأول للقرن العشرين إلى النصف الثاني منه. لا غاية سياسية من وراء ذلك، بل مجرد تقريب المسافات، ليكون الحديث أكثر قربًا للمتلقي. في الوقت ذاته هناك خامة رائعة اعتاد أبوسيف عليها كلما سعى لنقل أجواء الحارة المصرية وشخصياتها.
ومن الرواية إلى الفيلم، تبقى الحكمة الفلسفية البارزة في الدراما، سواء أدبيًا أو سينمائيًا، عن فسلفة الحياة والموت، ورمزية الموت عند كل البشر، وتأثيره على مجمل حياة الإنسان في نفسه، وفي أقرب أحبائه.