التعليم أولًا
هل نتذكر الكتاب الشهير لعميد الثقافة العربية طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى أصدره فى عام ١٩٣٨، بعد معاهدة ١٩٣٦، ومع الشعور العام بحصول مصر على استقلالها؟ هنا لفت طه حسين انتباه المصريين إلى أن الأهم بعد الحصول على الاستقلال هو التعليم والثقافة، وأن مستقبل مصر فى هذا الأمر.
لا أدرى لماذا تذكرت هذا الكتاب العمدة وأنا أقرأ الكتاب المهم الذى أصدره الدكتور سامى نصار، العميد الأسبق لكلية الدراسات العليا فى التربية بجامعة القاهرة، وعنوان الكتاب «التربية من أجل المعرفة والاختلاف»، والمثير أننى وجدت سامى نصار يعود إلى كتاب طه حسين سابق الذكر، بل ويجعله من ركائز بحثه الجديد، هنا أدركت قيمة وأهمية التواصل فى تراثنا التربوى والثقافى.
ويركز نصار فى كتابه على أهمية قيمة «الاختلاف» فى التربية، لأن الاختلاف هو البوابة الحقيقية للإبداع. ويقتبس نصار مقولة مهمة ومُعبرة من أمين معلوف المفكر والروائى الشهير: «المعلمون الحقيقيون هم من يعلمونك كيف تختلف». ويذكرنى ذلك بالمقولات الشهيرة فى التراث العربى حول أهمية الاختلاف بل وضروريته مثل «يا ويلنا إن لم نختلف»، وفى الفقه «اختلافهم رحمة».
ويأخذنا نصار إلى جولة فى علوم التربية فى عصر ما بعد الاستعمار، وما بعد الحداثة والعولمة، وعيناه دائمًا على الواقع التربوى والثقافى العربى، إذ يرصد بذكاء معضلة مهمة عانت منها التربية فى عالمنا العربى بعد الاستعمار وفى ظل ما عُرف بالدولة الوطنية: «تبلورت أهداف التربية والتعليم حول تحقيق التماسك الاجتماعى والوحدة الوطنية، ومن ثم قامت النظم التعليمية الوطنية بقمع كل أشكال التنوع والتعدد الثقافى داخل المجتمع، من حيث اللغة أو الدين أو العرق أو النوع لصالح ثقافة واحدة مهيمنة». وهنا يقدم نصار تشريحًا حقيقيًا لأهم المشاكل المزمنة فى عالمنا العربى، وهى مشكلة فشل المواطنة، وبالتالى عدم القدرة على قبول الآخر الشريك فى الوطن، فما بالنا بالآخر البعيد؟! هذا الأمر فى غاية الأهمية ليس فقط لأنه يُخرب الأوطان من الداخل، ولكن لأن غياب قيمة «الاختلاف» فى التربية والتعليم هو المفرخة الحقيقية لعناصر الإرهاب بعد ذلك.
ويشير نصار إلى عجز مدارسنا حتى الآن عن فتح الباب أمام كل الأطياف المختلفة المكونة للهوية لتتفاعل مع بعضها وتكون مصدر اتحاد لا تنافر، وقوة وتساند، لا ضعف وخذلان، بل إثراء للهوية وترسيخ لمقوماتها الأساسية.
من هنا يقدم نصار «بروتوكول علاج» لنظامنا التربوى والثقافى:
«يتعين على التربية الآن فى ظل خطاب العولمة الكاسح أن تعطى قيمة أكبر للتعلم من أجل الاختلاف من خلال فهم الآخر وقبوله كما هو، وصولًا إلى الوحدة فى الاختلاف، فنعلم أبناءنا كيف يفهمون ويتفهمون خصوصيات الدول المختلفة، ويعترفون بالتباينات الثقافية والاجتماعية والدينية والطائفية باعتبارها عملية إنسانية ومكونًا أصيلًا من مكونات الهوية الثقافية لأى أمة».