«ما وراء العشق».. حكاية رواية مجهولة لـ نجيب محفوظ
تربط المخرج السينمائي الكبير علي بدرخان، علاقة عمل وصداقة مع شيخنا الكبير نجيب محفوظ، بعد أن أخرج له ثلاثة من أهم أفلامه السينمائية عن أعمال أدبية له، وهي أفلام "الكرنك" عام 1975 عن رواية الكرنك، و"أهل القمة" عام 1981 عن قصة بنفس الاسم، و"الجوع" عام 1986 عن رواية الحرافيش.
بهذه الكلمات بدأ الناقد حسين عيد، يشرح كيفية عثوره على رواية "ما وراء العشق"، والتي نشر أجزاء منها في كتابه الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية عام 2002 تحت عنوان "تجربة فريدة ورواية مجهولة".
وأكمل عيد قصة الرواية قائلا: كما تربطني علاقة حميمية بالفنان الكبير علي بدرخان، وكثيرًا ما كنا نقضي ساعات طوالًا في مناقشة حماسية لأعمال بعينها، لذلك كنت أحرص على أن أهديه نسخ من رواياتي، وحين أهديته كتابين نشرا لي عام 1997، وهما "نجيب محفوظ.. سيرة ذاتية"، و"رحلة الموت في أدب نجيب محفوظ" لعلهما أكدا له أنني أشاركه الإعجاب بكاتبنا الكبير نجيب محفوظ وفتح لي مخزون أسراره وناولني صورة ضوئية من رواية "ما وراء العشق" بخط يد نجيب محفوظ، سبق وأن قدمها له أديب نوبل على أمل الاستفادة منها سينمائيًا، فشكرت له حسن صنيعه شاعرًا أني عثرت على كنز حقيقي لا يقدر بثمن.
ـ لماذا لم ينشر نجيب محفوظ رواية "ما وراء العشق"؟
ذكر نجيب محفوظ روايته "ما وراء العشق" في كتاب نجيب محفوظ يتذكر لجمال الغيطاني، والذي صدرت طبعته الأولى عن دار المسيرة في بيروت عام 1890، قال محفوظ: "إنني أقرأ العمل بعد كتابته بعد التبييض أنتظر فترة، ثم أعيد قراءته، وفي جميع الحالات أشعر بعدم الرضا، أشعر بالفرق بين التصور المبدئي وبين ما أنتجته فعلًا، بين الطموح وبين ما تحقق، ولكنه عدم رضا لا يؤدي إلى إلغاء ما كتبته، المرة الوحيدة التي اضطررت فيها إلى إلغاء ما كتبته حدثت بعد انتهائي من رواية "ما وراء العشق"، وقد كتبتها خلال السنوات الأخيرة، بعد انتهائي منها شعرت بعدم رضا نهائي، من الصعب أن أقول لك ما الذي أثار ضيقي منها، كنت مطمئنًا إلى القسم الأول فحسب، لكن القسم الثاني أشعرني بعدم ارتياح، ولكن هذا نوع مختلف من عدم الارتياح الذي ينتج بسبب ما كان في خيالك وما تحقق بالفعل، لقد كان لدي ثلاث روايات، أفراح القبة، وليالي ألف ليلة وليلة، وما وراء العشق"، وقمت بنشر أول روايتين، واحتجزت ما وراء العشق إلى السنة القادمة كي أعيد فيها النظر".
ـ أعاد إنتاجها في شكل جديد
نشر نجيب محفوظ مجموعة قصصية بعنوان "رأيت فيما يرى النائم" يقول حسين عيد: "حين قرأت المجموعة التي صدرت عن مكتبة مصر، وجدت ضالتي المنشودة في قصة قصيرة بعنوان "أهل الهوى"، ولعل الأصداء التي شعرت بها عند قراءتي لرواية "ما وراء العشق" كان مبعثها قراءتي السابقة لهذه القصة، فقد كانت قصة أهل الهوى معالجة فنية جديدة لرواية "ما وراء العشق"، أو ثمرة طازجة عذبة لعملية إبداعية جديدة، بعد أن أعاد نجيب محفوظ النظر فيها.
وأصدر حسين عيد كتاب "رواية مجهولة وتجربة فريدة" عن الدار المصرية اللبنانية عام 2001، وعلى الغلاف الخلفي نشر رسالة نجيب محفوظ إليه والتي تقول" الأستاذ حسين عيد، تحية لجهودك المستمرة في دراسة أعمالي وأمنيتي بعد طبعها أن يتاح لي الإطلاع عليها، بفضل بعض الأصدقاء الذين يقرأون لي.. نجيب محفوظ في 182001.
ونشر حسين عيد ملحق عبارة عن أجزاء من رواية "ما وراء العشق" بخط يد الأديب الكبير نجيب محفوظ.
ـ جزء من رواية ما وراء العشق
ظل ملقى على الأرض غائبًا عن الوجود حتى فتح عينيه عند الضحى، ثمة شبه ظلمة، ثمة جدار غريب ضارب للسواد قد من أحجار ضخمة، أي مكان؟، رفع رأسه فشعر بألم، تهض مستندا إلى راحتيه فنظر فيما حوله، إنه يرى بمشقة، ولكنه أدرك أنه في قبو مسقوف، سقفه- كجدرانه- مقدودة من الأحجار الضخمة، ذي مدخلين ومخرجين، ولكن ماذا جاء به، من هو؟، لا يظفر بأي جواب، تحسس موضع الألم فوجد ورمًا، وفي الحال رأى نفسه لأول مرة، إنه عارٍ تمامًا إلا من سروال يغطي عورته، كيف ومتى حدث ذلك؟، من هو؟، مر به أناس ولكن لم يعره أحد نظرة واحدة، تخلى عنه الأمل في أن يظفر بنزرة واحدة من نورهان، خرس الماضي والحاضر، كل شيء أخرس، وندت عنه حركة، نهض كأنه كائن بشري كأنما خلق لتوه من الأرض، تقدم في أسمال بالية ناشرًا رائحة عفنة، سأله وهو يمر به: مازلت حيًا؟، وضحك ضحكات كريهة وقال: ضربوك وسرقوك.. تعيش وتاخد غيرها.
ومضى إلى الحارة وهو يصيح "لله يا محسنين"، لا يمكن أن يبقى في موقفه إلى الأبد، تحول في حذر نحو الحارة، أي فراغ هذا؟، أي فراغ وظلام يطمسان أعماقه، لكنه حي يشبه هؤلاء الأحياء الذين يتجاهلونه، توقف عند مدخل القبو، مد عينيه نحو الحارة، ثمة حياة صاخبة، أوجه تظهر في النوافذ وتختفي، دكاكين على الصفين، عربات يد وعربات نقل تذهب وتجيء، باعة ينادون، أناس يتضاحكون، يتبادلون الجد والهزل، آخرون يتضاربون، رجل يجري بأنف دام وهو يصرخ: "بلا سبب.. يتقاتلون بلا سبب".
الأصوات تتجمع وتنداح وتفور تحت أشعة الشمس، حركة جنونية لا معنى لها، ولكنها تبعث الخوف، والناس يمرون به دون أن يلقوا عليه نظرة واحدة، أو يلمحونه بلا أدنى اكتراث، إنه شيء، مجرد شيء، كلا، إنه لا شيء، ولن يستطيع أن يبقى في عزلته المرعبة إلى الأبد، إنه في أشد الحاجة إلى أن يدخل في أعين الناس كما يدخلون في عينيه، أن يبعث من موته بأي حال وأي ثمن، ثم إنه رغم ألمه يشعر بعطش وجوع، عليه أن يثبت أنه حي، ولن يتأتى ذلك إلا بالاعتراف بالآخرين، ربما يكون الأمر كله حلمًا مزعجًا، وحتى في تلك الحال لا بد أن يصحو، واعتاد الألم ولكن زاد الجوع والعطش، وترامت إلى أنفه رائحة طيبة، عرف مصدرها في صحن طعام على خوان جلست إليه امرأة تأكل، جلست المرأة أمام دكان خردة تتناول إفطارها، مقبلة على الطعام بحيوية وتصميم ونهم وبين حين وآخر تعنصر بالماء من قلة خضراء، امرأة هائلة في جسامتها قوية مثل مصارع، ريانة الوجه كبيرة القسمات، تلس مثل الرجال جلباب وطاقية وفي قديها الغليظتين مركوب.
مضى يقترب من الدكان مجذوبًا برائحة الطعمية حتى وقف على بعد خطوات، لحظته المرأة والتفتت إليه بعنف يتوافق مع حملقتها وهمت بنهره وطرده ولكن وجهًا جذب عينيها باهتمام فسكن انفعالها، تولتها الدهشة ليس الوجه بوجه شحاذ أو متشرد ممن يأوون إلى القبو، وجه وسيم برئ ذاهل، ماذا يريد وماذا تراه، وشاركها مشاعرها أقرب الجيران لها.