العشق والمصير المشترك
ما أعظم الشبه بين الشام والقاهرة! عندما زرت الشام لأول مرة فى أواخر حكم حافظ الأسد، شعرت وكأنى فى قاهرة الستينيات. هناك تشابه فى نمط الحياة الاجتماعية وحتى فى المجال العام، بل ونفس الشعارات السياسية! وفى بدايات حكم بشار الأسد نجد تشابهًا مع قاهرة السبعينيات، مظاهر محاولات الانفتاح الاقتصادى، انفراجة محسوسة فى المجال العام، معارضة تتطلع إلى المستقبل، ثم خيبة أمل فى الإصلاح السياسى.
وأنت فى الشام لا تشعر بالغربة قط، سوق الحميدية كأنك فى الموسكى، الجامع الأموى كأنك فى الأزهر، مقاهى الصالحية كأنك فى وسط البلد، الحياة واحدة والوجوه تتشابه.
حتى عندما بدأت العمل فى دار الوثائق فى دمشق، كان هدفى العمل على وثائق المحاكم الشرعية هناك، ومقارنتها بمثيلاتها فى القاهرة، كم كانت دهشتى من التشابه، وأحيانًا التطابق بينهما! عندما تطالع وثائق الحياة اليومية فى دمشق فى القرن الثامن عشر، تشعر كأنك فى قاهرة القرن ذاته، والأكثر من ذلك تطابق أسماء بعض المحاكم فى الشام والقاهرة، كل ذلك دفعنى إلى مسألة البحث عن المشترك بين الشام ومصر، دمشق والقاهرة.
والمسألة ليست وثائق أو ماضيًا مشتركًا، وإنما الناس والحاضر، وكعادتى عندما أزور بلدًا لأول مرة، أسأل الأصدقاء فى القاهرة عن معارفهم فى هذا البلد، ففى عقيدتى كمؤرخ «أن الغريب أعمى ولو كان بصيرًا»، وسألت الصديق «سيد محمود» المعروفة عنه شبكة علاقاته الثقافية فى سوريا ولبنان، وبالفعل تعرفت من خلاله على من أصبحوا أعز أصدقائى فى الشام.
هل أنسى الصحفى والروائى «خليل صويلح» المولع بكتابة الروايات التاريخية آنذاك؟ وكانت المفاجأة الثانية الكاتب والأديب «خالد خليفة»، الذى وصل إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، وفى الحقيقة إذا أردت أن تعرف الشام جيدًا عليك بخالد خليفة. هل أنسى «سراب الأتاسى» واستقبالها لى فى المعهد الفرنسى فى الشام، وكأن أختك تستقبلك، وحكاياتها عن تاريخ آل الأتاسى؟ الخلاصة أنك فى الشام لا تشعر بالغربة أبدًا.
هل أحدثكم عن شعورى عند زيارة قبر صلاح الدين الأيوبى المجاور للجامع الأموى؟ هناك عاد إلى ذهنى التاريخ والمصير المشترك بين الشام ومصر، وكيف واجها معًا الحملات الصليبية.
وفى صبيحة اليوم التالى كان الباص ينقلنا من دمشق إلى بيروت لاستكمال حلقات اللقاء العلمى هناك، وعلى الحدود وقفنا لأكثر من ساعة، وبدأ الجميع فى الغناء، وهنا طلب أحد الأساتذة السوريين غناء أغانى الوحدة السورية المصرية فى عام ١٩٥٨، عندما كانت سوريا الإقليم الشمالى، ومصر الإقليم الجنوبى، والاثنان معًا «الجمهورية العربية المتحدة»، كان الغناء تحية للمشاركين المصريين فى اللقاء العلمى، وبدأ الإخوة السوريون فى غناء أغنية محمد قنديل «وحدة ما يغلبها غلاب»: «أنا واقف فوق الأهرام وقدامى بساتين الشام..
وحدة ما يغلبها غلاب تباركها وحدة أحباب».
الغريب أننا كمصريين كنا نسينا الأغنية وكلماتها، والأشد إثارة تردد الإخوة اللبنانيين- على اختلاف مذاهبهم وأطيافهم السياسية- فى المشاركة فى الغناء، ولكن لم يطل زمن التردد وتحول الباص إلى مسرح غنائى كبير، وشارك الجميع- سوريين ومصريين ولبنانيين- فى غناء أغانى الوحدة حتى عبرنا الحدود!
نعم، هناك عشق ومصير مشترك.