مع السلام.. ولكن بحذر
لا شك أن الدعوة المصرية بضرورة إحلال السلام بين الفصائل الليبية المتناحرة وتبنيها الداعم لذلك هو الذى دفع القيادة السياسية لأن تبادر بالإعلان عن التهنئة والتأييد للبيانين اللذين صدرا عن حكومة الوفاق الليبية ومن البرلمان الليبى، واللذين يعلنان فيهما عن البدء فى إيقاف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة والدعوة إلى القيام بعملية سياسية شاملة تنهى حالة الصراع الممتد فى البلاد منذ 2011، ورسم خارطة طريق يديرها أبناء الشعب الليبى بأنفسهم دون تدخلات خارجية من تلك القوى التى تتصارع على اقتسام ثروات البلاد الاقتصادية وعلى موقعها الاستراتيجى فى قلب الوطن العربى والشمال الإفريقى وأيضا دول حوض البحر الأبيض المتوسط.
لقد كانت وجهه النظر المصرية تقوم دائما على أنه لا حل للمسألة الليبية دون عملية سياسية حقيقية، تنتهى بالإعلان عن قيام دولة قوية تدير مقدرات الشعب الليبى وفقا لمصالحة الوطنية.
وفى هذا الإطار، فقد كان لمصر دور كبير فى تقريب وجهات النظر بين الفرقاء للوصول إلى هذه المرحلة متبنية فى ذلك قرارات مؤتمر برلين، واتفاق الصخيرات وأخيرا إعلان القاهرة....وفى ذات الوقت كان الموقف المصرى الحازم فى اعتبار كل من منطقتى سرت والجفرة خطا أحمر لما يمثله أى انتهاك عسكرى لهاتين المنطقتين تهديدًا للأمن القومى المصرى أيضا- أحد الدوافع التى أدت إلى إعادة النظر فى مواقف طرفى الصراع الليبى، خصوصا من قبل حكومة الوفاق المدعومة من تركيا وقطر والدعوة إلى الحوار لوضع أسس مقبولة للتسوية المطلوبة فى المسألة الليبية.
وإذا نظرنا لكلا البيانيين فسوف نجد أن هناك نقاط اتفاق متعددة مشتركة بين الجانبين إلا أن بيان حكومة السراج اهتم بشكل أكبر باعتبار كل من سرت والجفرة منطقتى منزوعة السلاح مع استئناف إنتاج وتصدير النفط على أن يتم إيداع الإيرادات فى حساب خاص بالمؤسسة الوطنية للنفط لدى المصرف الليبى الخارجى، والذى تسيطر عليه حكومة الوفاق الليبية، ومن هنا كان لا بد أن نتوقف لنرصد بعض المعطيات الأخرى التى تجعلنا ننظر بحذر إلى دعوة تلك الحكومة، والتى قامت مؤخرا بعقد العديد من الاتفاقات الاستراتيجية مع تركيا، بالإضافة إلى تقوية العلاقات مع دولة قطر وكلاهما يعملان ضد المصالح المصرية فى الداخل والخارج.... ولعل من أهم تلك المعطيات:
- ليبيا تمثل ذخيرة نفطية لا يستهان بها فى المنطقة، وكذلك فهى تعتبر من الدول الواعدة فى مجال اكتشاف الغاز وبالتالى فإن انظار معظم الدول تتجه إليها وتجعلها مطمعاً لها، ولا شك أن تركيا تحديدا تتحرك فى اتجاه تهدئة الأجواء حتى يتسنى لها الاستفادة من تلك الثروات.
- حكومة السراج دأبت على إصدار الوعود برغبتها فى إحلال السلام فى المنطقة إلا أنها سرعان ما كانت تتراجع عن تلك الوعود تحت التأثير التركى الذى راح يدعمها بالآلاف من القوات المرتزقة وعناصر تنظيم داعش الذين قامت بنقلهم إلى ليبيا ليمثلوا قوة عسكرية تواجه قوات الجيش الوطنى الليبى بتمويل كامل من قبل النظام القطرى.
- بيان حكومة الوفاق دعا إلى وجود قوات شرطة من الجانبين فى بلدتى سرت والجفرة بدلاً من قوات الجيش الوطن الليبى الذى يقوده المشير خليفة حفتر.... وهنا يثور التساؤل عما إذا كان دور هذا الأخير سوف يتلاشى وبالتالى يكون ذلك بداية لسيطرة قوات حكومة الوفاق تدريجياً على هاتين المنطقتين.
- هناك العديد من أعضاء حكومة الوفاق وكذلك من المسئولين فى الغرب الليبى من كوادر جماعة الإخوان الإرهابية ويكفى أن نشير إلى وجود 9 من مديرى المصرف الليبى الخارجى الذى سوف تورد إليه عائدات النفط ينتمون لتلك الجماعة وبالتالى فلن يكون هناك حيادية فى ملف توزيع عوائد بيع النفط الليبى على كافة محافظات الدولة الليبية بل إن تلك العوائد سوف تدار لحساب جماعة الإخوان التى تدين بالولاء الكامل لتركيا.
- يشير بيان البرلمان الليبى إلى ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة - ويقصد بها - الميليشيات والأتراك من أجل استرجاع السيادة الكاملة على التراب الوطنى الليبى.. وهنا يجب أيضا نشير إلى عدة نقاط:
1- إن الحكومة الليبية منحت جوازات سفر ووثائق تجنيس للآلاف من هذه الميليشيات التكفيرية وبالتالى فإنها خرجت من هذا الإطار واعتبارهم من الراعية الليبيين.
2- فى حالة رفض تلك الميليشيات الرحيل من ليبيا يثور التساؤل عن القوى التى سوف تنفذ عمليات الترحيل القسرى لها فى هذه الحالة... هل الجيش الوطنى الليبى هو الذى سوف يقوم بذلك؟ أم القوات التابعة لحكومة الوفاق الليبية التى هى أصلاً من هؤلاء المرتزقة؟.
3- حتى فى حالة تنفيذ هذا المطلب فإلى أين سيتم ترحيل هذه الميليشيات...هل سوف تعود إلى سوريا أم تركيا أم العراق؟ وهل سوف تسمح الدول المختلفة بعودة رعاياها الذين يحملون جنسيتها مثل فرنسا وإنجلترا مثلاً بعد انضمامهم لتنظيم داعش؟.
4- إن هناك صراعات ومشاكل حقيقية تدور حاليًا بين فصائل المرتزقة وبعضها حول الرواتب والامتيازات المختلفة بالاضافة الى اختلاف الأيديولوجيات المختلفة التى تعتنقها تلك الفصائل، ومن هنا فإن هناك خطورة كبيرة باتت تشكل خطراً على استقرار الأوضاع فى الغرب الليبى وهو ما تتخوف منه القوى المعتدلة فى ليبيا وما أشار إليه بيان البرلمان الليبى.
نحن أمام مرحلة فارقة فى تاريخ الصراع الليبى – الليبى حيث يسعى المجتمع الدولى وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا إلى استتباب الأوضاع فى ليبيا والإعلان عن توافق سياسى بين جميع القوى المؤثرة هناك لصالح الشعب الليبى ظاهريا.. ولحماية مصالح تلك الدول وأطماعها فى الثروات الليبية واقعيا.
إننى على يقين أن الرئيس عبد الفتاح السيسى على دراية كاملة بكافة تلك المعطيات وعلى اطلاع كامل بالمستجدات التى طرأت على مواقف القوى المتصارعة فى ليبيا، وأن الرسالة التى وجهها للفصائل المتناحرة تؤكد أنه يعلم كل صغيرة وكبيرة فى هذا الملف وفى ذات الوقت يؤكد أهمية استثمار تلك الظروف الإيجابية المعلنة بغض النظر عن النوايا الغير معلنة لعلها تؤدى فى النهاية إلى ما فيه صالح الشعب الليبى وثبات واستقرار الدولة الليبية.
وتحيا مصر....