في الذكرى 42 لاختفائه.. «الدستور» تحاور أسرة الإمام موسى الصدر
عبر الشاشات بمدينة سور الساحلية جنوب لبنان، تابعت أسرة موسى الصدر، لحظات سقوط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، الذي أرسل قبل أربعة عقود دعوة رسمية إلى والدهم لزيارته في ليبيا بالتزامن مع احتفالات ما عُرف وقتها بـ" ثورة الفاتح"، لمناقشة تهدئة الحرب الأهلية التي اندلعت في سبعينات القرن الماضي بلبنان، في لقاء رتبه الرئيس الجزائري الأسبق هواري أبو مدين، فلبى الإمام الشيعي الدعوة، ليذهب إلى العاصمة الليبية طرابلس رفقة الشيخ محمد يعقوب والصحفي عباس بدر الدين، وذلك في الخامس والعشرين من أغسطس 1978، لتختفي آثارهم حتى الآن، فيما تظل عائلته تتشبث بأمل عودته يومًا ما.
بحلول الذكرى الـ42 لاختفاء الإمام موسى إسماعيل الصدر في ليبيا، حاورنا أسرته التي ما زالت تقبع في "سور" ذات الأغلبية الشيعية والكائنة على بعد نحو 70 كيلو مترًا جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، تلك التي وطئها لأول مرة عام 1959؛ حيث استقر به المقام، قادمًا من مدينة "قم" الإيرانية التي ولد بها، وذلك بناءً على وصية المرجع الشيعي اللبناني وقتها عبد الحسين شرف الدين، لثقته فيما سيقوم به الصدر تجاه الجنوبيين الذين عانوا أوضاعًا صعبة، وهو ما فعله، عقب أن مُنح الجنسية اللبنانية.
عامًا تلو الآخر توسعت مشروعات الصدر الخدمية في الجنوب، ذاع صيته، بات لديه محبين ومريدين يأتونه من جميع أنحاء لبنان؛ توطدت علاقاته بالسنة والمسيحيين، نادى بتوحيد الشعائر الدينية بين المذاهب الإسلامية، رغم دراسته الحقوق والعلوم الشرعية في العاصمة الإيرانية طهران، واستكمل تعليمه في مدينة النجف العراقية ذات الأغلبية الشيعية، غير أن اندلاع الحرب الأهلية، واجتياح الإسرائيليين للبنان لم تمهله "الإمام كان بده يخلص لبنان من الصراعات الطائفية"، تحكي شقيقته رباب الصدر لـ"الدستور" عن سبب قيام الصدر بجولة إلى البلدان العربية، قائلة: "كان بده يوقف تمويل بعض الزعماء للطوائف في لبنان، وليحشدهم ضد إسرائيل".
شهور ستة مرت على جولة الصدر التي أنهاها في الجزائر؛ حيث دار نقاشا بينه وبين والرئيس أبو مدين، حول ما يحدث في لبنان "أبو مدين تفاجئ بما قاله الوالد"، يحكي صدر الدين الصدر نجل الإمام لـ"الدستور"، ما أخبره به والده بعد عودته "جلسا أربع ساعات منفردين يتحدثان"، حتى هب أبو مدين ناهضًا صوب الهاتف، ليتحدث مع القذافي "قاله الإمام الصدر لديه حقائق حول الوضع اللبناني، ومن الأفضل أن تلتقيا"، أبدى القذافي موافقته بذاك الاقتراح على مضض "العلاقة كانت متوترة بينهما خاصة بعد لقائهما الأول والمهين للإمام في 1975"؛ حيث كانت الحرب الأهلية اللبنانية على أشدها "في آخر اللقاء وضع القذافي قبعته على عينيه واستلقى على المقعد نائمًا".
قبل انتهاء شهر رمضان بخمسة أيام، عزم الصدر ورفيقاه أمرهم على السفر صوب ليبيا، غير أن بعض الساسة وقيادات حركة "أمل"- أسسها الصدر عام 1970 لمحاربة إسرائيل- عارضوا ذلك، وهو ما أفصح عنه لشقيقته عشية ليلة سفره "كان بايت عندي بالبيت، وقالي الكل ما بدوهم أروح"، لكنه ذهب "قال بدنا نخلص من هالكابوس"، فحزمت حقائبه "قال بغيب بس خمس أيام، وبرجع على عيد الفطر".
صباح يوم السفر، كانت رباب الصدر واقفة في منزلها تنتظر خروج شقيقها:"لم يكن متخوفا من شيء، ومررته من تحت القرآن، وقبل رأسي"، ومن ثم انطلق صوب مطار الزهراء بمدينة خلدة الواقعة على بعد 12 كيلومترًا جنوب لبنان؛ حيث التقى أولًا ببعض قادة الحركة "حصل حديث وتشاور عادي بينهم، وليس صحيحًا مطلقًا أن نقاشا حادا نشب"، يقول صدر الدين.
منذ أن وصل الصدر ليبيا، لم يصل الأسرة عنه خبرًا، سوى أنه ورفيقيه مكثوا في فندق الشاطئ بالعاصمة الليبية "الوالد كان معتادًا يهاتفنا حين سفره، لكن هذه المرة، لم يتصل بالعائلة ولا بالمجلس الشيعي ولا بأعوانه"، فانتظروا حتى مرت أيام خمسة على سفره: "تواصلنا مع السفير اللبناني لدى ليبيا، لكن لم يكن عنده معلومة"، بدأ يتسرب القلق إلى قلوب العائلة، فشرعت في اتخاذ خطوات رفقة المسؤولين اللبنانيين، لمعرفة مصير الرفقاء الثلاثة "لم نتوصل لشي أبدًا".
لم تبرح تفاصيل تلك الأيام الثقيلة ذهن نجل الصدر، الذي حاصرته شائعات هائلة حول مصير والده، انساقوا وراءها حينًا، وصمتوا حيالها حينًا آخر، إلاّ أن هذه الشائعات تكاثرت عليهم عقب سقوط النظام الليبي، خاصة المتعلقة بقيام صبري البنا المعروف بـ"أبو نضال" مؤسس "حركة فتح الثورية" والمقرب من القذافي بقتل الإمام ودفنه في حديقة منزله "هذه الرواية ليست صحيحة؛ لأن أبو نضال كان على خلاف مع معمر القذافي عام 1978 ولم يذهب إلى ليبيا إلاّ في العام 1987".
تأكد لدى عائلة الصدر عدم صدقية هذه المعلومة بلقائهم برئيس جهاز الاستخبارات الليبي السابق عبد الله السنوسي في محبسه، لمعرفة مصير الرفقاء الثلاثة، بناءً على التعاون المشترك بين الليبيين ولجنة المتابعة الرسمية اللبنانية للقضية: "السنوسي لم يتكلم عن أن القذافي سلم الإمام لأبو نضال"، شعور ثقيل انتاب صدر الدين؛ جرّاء عدم إفصاح السنوسي عن أيّ معلومات متعلقة بوالده، فضلًا عن فشل التعاون بين البلدين في ملف القضية: "لم يكن تعاون جدي من قِبل الليبيين الذين تسلموا السلطة بعد القذافي مع السلطات اللبنانية، ولو حدث لكنا استطعنا تحرير الإمام وأخويه".
إلصاق تهمة قتل الصدر للكثيرين لم تتوقف حتى وصلت إلى أصدقائه الإيرانيين الذين مثلوا شرارة الثورة الإيرانية، كرجل الدين محمد بهتشي الذي اتهمه الكاتب الأميركي كاي بيرد في كتابه "الجاسوس النبيل"، بقيامه بالإيعاز للقذافي بتصفية الصدر، بحجة عدم تأييده للثورة الإيرانية ولقائدها آية الله الخميني "الإمام والشهيد بهشتي كانا أخوين روحيين، كما أنه كان بمثابة تلميذ للخميني، وحدث بينهما لقاءات غير مباشرة عدة، فضلًا عن أنه اختفى قبل اندلاع الثورة الإيرانية، واعتقد أنه من المبكر أن تكون لديه ملاحظات على قيام دولة إسلامية في إيران وقتها"، بالإضافة إلى أن آخر مقال كتبه كان تأييدًا لتلك الثورة، وذلك في "لموند" الفرنسية، قبل سفره بيومين إلى ليبيا.
وسطاء عدة سيقوا إلى القذافي من أجل معرفة مصير الصدر بما فيهم قادة الثورة الإيرانية؛ إذ تواصلت عائلة الصدر معهم وقتها، ليتواصلوا عبرهم مع القذافي، ذهب مساعد رئيس الجمهورية الإيرانية السيد أبطحي إلى ليبيا، لكنه لم يوفق بالوصول إلى نهايات سعيدة، نظرًا لادعاء القذافي طيلة عقود خلت أن الصدر ورفيقيه غادروا ليبيا إلى إيطاليا؛ حيث اختفوا، وهو ما كذّبه القضاء الإيطالي آنذاك.
رغم العراقيل الموجودة في طريق أسرة موسى الصدر، لكنهم لديهم قناعة راسخة بأن المسؤول عن تغيب والدهم هو القذافي، وكذا أن الإمام ما زال حيًا، وهو ما يجعلهم مستمرون في نشر تعاليمه وأفكاره المحاربة للتطرف والطائفية، رغم صعوبة تعايشهم مع عدم تواجده: "لم يكن شخصية عادية، عاش حياةً نضالية، وترك بصمته في المجتمع اللبناني، فكان عصيًا على النسيان لدى محبيه وأنصاره وحتى خصومه، فكيف يمكن لعائلته التي لم ترَ منه إلاّ الحب أن تتعايش مع غيابه وانقطاع أخباره!".