حوار حول العلمانية 6.. فرج فودة يفكك أوهام فهمي هويدي
الاستقلال التام والموت الزؤام (*)
فاجأنا الأستاذ فهمى هويدى فى مقاله بـ«الأهرام» «الشريعة والسيادة المنقوصة» بمفهوم جديد، مضمونه أن تطبيق الشريعة الإسلامية ضرورى لتحقيق هدفين، أولهما الاستقلال الوطنى وثانيهما الانعتاق الثقافى والحضارى، أما إحساسنا بالجدة، فنتيجة لما تعودنا عليه من تبرير الدعوة لتطبيق الشريعة باستكمال الدين أو التناسق مع نصوص الدستور أو تحقيق أغراض سياسية بين جموح الاستيلاء على الحكم وطموح المشاركة فيه، وهى كلها دعاوى أسهمنا بالرد عليها فى حينها.
جديد إذن بالنسبة لنا أن نكتشف فجأة أننا محتلّون، وأن المحتل الذى اكتشفناه على يد الأستاذ هويدى هو الشرائع المستورَدة، وأنه احتلال أقسى من الاحتلال بالجيوش الأجنبية التى هى -على حد قوله- شرٌّ نسبى لا يُقارن بالشر المطلق للاحتلال التشريعى، وهو قول -إذا استبعدنا بلاغة أسلوبه وجزالة ألفاظه- لا يختلف فى مضمونه عن ادعاءات «عبدالسلام فرج» فى كتابه «الفريضة الغائبة»، حيث وصفنا بأننا (تتار)، مستندًا إلى تشبيه تشريعاتنا الحالية بتشريعات الياسق التتارية، تلك التشريعات التى تحول بيننا -فى رأى الأستاذ الهويدى- وبين (الانعتاق) الثقافى والحضارى، وهو ما يعنى بمفهوم المخالفة أننا نخضع لرق الثقافة والحضارة الغربية، وكأن عشرات القرون من تراكم الثقافات والحضارات لم تكن كافية لإقناع البعض بأن الثقافة لا جنسية لها، وأن الحضارة ليس لها وطن، إلا حيث يوجد الإنسان، شريطة أن تجد فى ذهنه موقعًا، وأن تلقى فى وجدانه من السماحة ما يتسع لإدراك تلك الحقيقة التى بقدر ما هى بسيطة الفهم فإنها عسيرة القبول على البعض.
ولنا فى السودان عبرة:
وتطبيقًا لمفاهيم الأستاذ هويدى يمكننا القول بأن السودان قد نال استقلاله التام فى سبتمبر 1983، حين أعلن الرئيس السابق النميرى تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية ونصّب نفسه إمامًا، وقد حرص (الإمام) النميرى على تعديل مواد الدستور لكى تتسق مع المفاهيم الاستقلالية الجديدة، وكان من أهم التعديلات مبايعة (الإمام) مدى الحياة، واختياره لمن يخلفه بكتاب مختوم دون أن يُعرف اسمه، وإضافة نصوص دستورية أخرى منها: لا تجوز مساءلة رئيس الجمهورية أو محاكمته (تعديل المادة 115) - رئيس مجلس الشعب يُعيّنه رئيس الجمهورية (تعديل المادة 191) - نقض بيعة الإمام خيانة عظمى (تعديل المادة 220). ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تم تشكيل محاكم طوارئ لتطبيق الشريعة أُدخلت فيها عناصر من غير الهيئة القضائية أوكل الإمام لنفسه حق تشكيلها، بحيث تتكون من قاضٍ واثنين من رجال القوات المسلحة أو الشرطة، وألغى استعانة المتهم بالمحامى إلا إذا كان صديقًا وحرم المتهم من تدوين أقواله كاملة فى محضر إجراءات المحاكمة، حيث أصبح من حق المحكمة أن تدوّن من أقوال المتهم ما تشاء وتترك ما تشاء، وتُوّج ذلك كله بحرمان المتهم من حق الاستئناف، وقد تمخّض هذا الاستقلال (السعيد) عن شبه انفصال كامل لجنوب السودان، وانعتاق لشعب السودان من قيود القوت الضرورى إلى الأفق الرحب للمجاعة، وتوالى الاحتفالات بقطع اليد والصلب والقطع من خلاف والصلب مع الشنق، وتوحد مفهومى الاستقلال التام والموت الزؤام، ولم يعدم «النميرى» أصواتًا مؤيدة انهالت عليه من كل صوب، كان أغلبها للأسف الشديد من مصر، حين أردك البعض أن رياح (الاستقلال) تهب على أبواب مصر الجنوبية، وأن أمل (الانعتاق) قد أصبح على مرمى حجر، فاندفعوا فى التأييد العنيف لـ«النميرى» والمطالبة الصاخبة لمصر بأن تترسّم خُطاه، وقد صدر ذلك كله فى كتاب موثّق أصدره البرلمان السودانى، لا أريد أن أعرض ما فيه حتى لا أُحرج أحدًا، لكنى أود أن أقف لحظة مع القارئ أمام تعليق الأستاذ الكبير عمر التلمسانى المرشد العام للإخوان المسلمين، الذى يُعلن دائمًا عن إيمانه بالممارسة الحزبية وقبوله قواعد العمل السياسى، وقد أدرك بثاقب فكره أن ما يفعله «النميرى» فى السودان يستفز كل أنصار الديمقراطية فيه وكل أنصار حقوق الإنسان خارجه، تأمل معى قوله فى كتاب البرلمان، (مطابع الشعب ص 138)، موجهًا حديثه إلى «النميرى»: «سينبرى البعض للقول بأن الإسلام هو الذى أودى بالمسلمين إلى هذا المصير، فعلى القائد الحصيف أن يحذَرهم، وأن يكبح جماحهم، ولا يُفسح لهم فى غيهم بحجة حرية الرأى والكلمة، فالحرية تكون فيما يضعه البشر لأنفسهم، وأما شرع الله فلا نقاش فيه»، هذا قول أكثر من نعرفهم فى التيار السياسى الدينى اعتدالاً وقبولاً لمفاهيم العمل السياسى، وهذا تصوّره للحرية التى لا يؤمن بها، والتى يعتقد جازمًا أنها جوهر ما يعتنقه من عقيدة الإسلام، ولست أدرى ما قوله الآن، بعد أن تخالف وأصبح رأس (الإمام) السابق مطلبًا جماهيريًا للشعب السودانى الذى استقل على يديه.
والإجابة معروفه سلفًا:
لا أشك فى أن الرد جاهز على ما عرضته من نموذج (استقلالى انعتاقى)، وهو لن يخرج عن القول بأن الإسلام حجة على الناس لا العكس، وأن تجربة «النميرى» لم تكن تطبيقًا لصحيح الإسلام بقدر ما كانت خروجًا عليه، وهى إجابة لم يتحرّج عن إعلانها من أيّدوه وقت أن كان الإمام فى السلطة، والشعب فى المجاعة، والخبراء المدرّبون فى دولة مستقلة مجاورة، على عمليات القطع، فى قمة نشاطهم ورواج صناعتهم، ولأنى لا أملك التنبؤ بقبول الأستاذ هويدى هذا النموذج أو رفضه له، فإننى أدعوه إلى أن يعرض علينا أى نموذج واقعى آخر، فى أى دولة يراها من الدول التى أخذت بمفهومه الاستقلالى، والتى جاهدت أيما جهاد للانعتاق من الثقافة الوافدة والحضارة المستورَدة فدفع الشعب ثمن الاستقلال من حريته، وانعتق من رق الثقافة والحضارة الوافدة إلى رقّ الحكام باسم الدين.
النضال الوطنى والشريعة:
ذكر الأستاذ هويدى فى مقاله «أن العودة إلى الشريعة احتلت موقعًا بارزًا فى النضال الوطنى، حتى إن النص على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا أساسيًا للقوانين لم يأخذ مكانه فى الدستور المصرى إلا فى مرحلة الاستقلال»، ويبدو أن أستاذنا الفاضل يستهين بذاكرتنا التاريخية أو يتحدّث عن تاريخ شعب لا نعرفه، فإذا أرّخنا لبداية النضال الوطنى فى العصر الحديث بالزعيم أحمد عرابى، فإنه هو نفسه الذى أسّس الحزب الوطنى القديم الذى ورد فى أول سطور برنامجه السياسى أنه «حزب مصرى سياسى علمانى لا دينى»، وإذا اعتبرنا ثورة 1919 قمة النضال الوطنى المصرى من أجل الاستقلال، فإننا لا نذكر أنه ورد فى نص توكيل الشعب للوفد ما يُشير إلى الشريعة من قريب أو بعيد، كما أن أقوال زعماء الثورة وأفعالهم لا تؤيد ما ذهب اليه الأستاذ هويدى من احتلال الشريعة ذلك الموقع البارز، بل حتى أى موقع، وإذا اعتبرنا دستور 1923 وثيقة مكمّلة لهذه الثورة، فإنه -على حد قول الأستاذ هويدى نفسه فى مقاله- «لم يُشر إلى الشريعة كمصدر للقوانين، وإنما اكتُفى بذكر أن دين الدولة الإسلام»، وحتى هذا النص كان مثارًا لنقاش طويل حول جدوى النص عليه فى الدستور، وإذا استعرضنا الفترة منذ 1919 إلى 1952، فإننا لا نجد لما يذكره الأستاذ هويدى أثرًا، اللهم إلا إذا كان يقصد بالنضال الوطنى نضال الإخوان المسلمين، وهو قول لا أسمح لنفسى بأن أنسبه إليه وإذا أخذنا الفترة التالية لقيام الثورة وحتى نهاية الستينات، والتى ركّز الأستاذ هويدى أنها «حفلت بمعارك النضال الوطنى»، فإننا نجد حقيقة معاكسة لما حاول إثباته، تتمثل فى إلغاء القضاء الشرعى وإسقاط نص أن الإسلام هو دين الدولة الرسمى من دستور الوحدة بين مصر وسوريا، ولست فى حاجة إلى أن أذكّر الأستاذ هويدى بأن شعبنا المصرى الطيب لم يعرف على مدى تاريخه النضالى الوطنى إرهابًا وسفكًا للدماء إلا على يد أنصار (الاستقلال والانعتاق) الذى يدعو إليه، بدءًا بالتنظيم السرى للإخوان المسلمين وانتهاءً بجماعات الجهاد.
والشىء بالشىء يُذكر:
وتمشيًا مع مفاهيم الأستاذ هويدى حول الاستقلال والتبعية، فاجأنا سيادته بمقال سابق دعا فيه مصر إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام الإيرانى وتبادل السفراء معه، مُلوحًا بما تحمله هذه الدعوة من جاذبية قيام مصر بدور فى مساعى المصالحة بين إيران والعراق، ومبعث المفاجأة أن هذه الدعوة -التى أتبعها سفر الأستاذ هويدى إلى إيران- تنطلق فى وقت غير مناسب بالمرة، بل إنها تثير نفوس كثير من الوطنيين الذين يحملون فى وجدانهم إيمانًا بالتضامن العربى، والذين يتابعون بكل القلق والأسى محاولات إيران المتكرّرة لاحتلال البصرة، فالعراق -مهما اختلفنا مع حكامه أو اختلفوا معنا- هو البوابة الشرقية للأمة العربية كلها، والبصرة لا تقل فى وجداننا قيمة ومكانة عن الإسكندرية، والصرعى من العراقيين مأتمهم فى بيت وقلب كل مصرى، والدعوة حتى إن كانت مغلقة بجاذبية الحنكة السياسية يأباها الضمير الوطنى حين تأتى فى هذا التوقيت، بل إن هذه الحنكة مشكوك فيها إلى حد بعيد، فالنظام الإيرانى لا يزال يزايد، والسلام لا يبدو واردًا لديهم رغم مساعى السعودية ودول الخليج، وحين تكون البصرة أو بغداد عُرضة للسقوط، فإنه لا مجال للتردُّد فى اختيار الجانب الذى نقف بجانبه، ولا متسع للحياد بين الفريقين، ولا وقت للتساؤل عمن بدأ الحرب، ولا اجتهاد فى تفسير معنى الاستقلال بغير دفاع عن حدود الوطن العربى ضد الغزاة مهما تلونت راياتهم، أو غُلّفت دعواهم بشعارات الاستقلال والانعتاق.
وتبقى كلمة أخيرة:
هى كلمة للتاريخ قبل أن تكون لغيره، فهو لن يغفر لنا أن نقف على أعتاب القرن الحادى والعشرين لكى نتحدث عن الانعتاق من أسر الحضارة الإنسانية الحديثة، وأن نتلهى بالتعبير عن دعوة قديمة بإلباسها كل يوم ثوبًا جديدًا، فتارة هى الدين، وتارة هى الإصلاح، وتارة هى الدستور، وتارة هى الاستقلال، بينما الأمر كله لا يخرج عن معنى واحد هو الانغلاق لا الانعتاق، والاستغلال لا الاستقلال، أما الانغلاق فحاشا لله أن أقصد به الشريعة، وإنما أقصد به من يصوّرون للجميع أننا خارجون عليها أو متآمرون ضدها، بينما هى مطبّقة فى شتى المجالات، عدا النزر اليسير، لغياب الاتفاق بين أنصار هذه الدعاوى على رأى موحّد حيالها، وإسقاط لغياب الاتفاق بين أنصار هذه الدعاوى على رأى موحّد حيالها، وإسقاط حضارة العصر لبعض المفاهيم، مثل الرق والتسرى بالجوارى والتمتّع بما ملكت الأيمان، وأما الاستغلال، فأقصد به أن نتلهى عن مشكلاتنا الاقتصادية المعقّدة، سواء فى مجال الديون أو الإسكان أو الأجور أو الأسعار، بأسئلة من نوع: هل نحن مستقلون حقًا؟ هل نحن أحرار حقيقةً؟ وكلها أسئلة تستغل المأزق الذى نعيشه، وتدفع المجتمع كله إلى حلم وردى لا يعيش إلا فى خيال أصحابه، ولا سند له من واقع أو تاريخ، ولا طائل من ورائه إلا أن يصل الآخرون إلى مزيد من التقدُّم والاتفاق علينا، بينما نصل نحن إلى مزيد من التخلّف والاختلاف بيننا.