مصر: الموسيقى والتاريخ (2)
لم يقتصر الأمر على مجرد "تغريب" الذوق العام ووصم الموسيقى الشرقية بالبلدي، كما انتهينا في المقال السابق، ولكن سيؤدي ذلك إلى مشاكل خطيرة حتى في مجال الوطن والوطنية والجيش والموسيقى العسكرية، ويحدثنا عن ذلك مصدر أخر غاية في الأهمية يعالج نفس القضية وهو كتاب "لمحة عامة إلى مصر" لكلوت بك؛ إذ يقول تعليقًا على الموسيقى العسكرية في عصر محمد عليّ، وتحت عنوان (الموسيقى الأوربية في الجيش المصري):
"إن إرغام المصريين على سماع أدوارنا الموسيقية وأدائها بآلاتٍ غير التي ألفوها قد أوقع الذين أرادوا هذا الإصلاح المعكوس وقاموا به، في عين الخطأ الذي وقع فيه من يريد تحريك شعب بإرغامه على حفظ عبارات فصيحة فخمة بلغةٍ لا يفهمونها لأنها غير لغتهم".
ويتمنى كلوت بك لو كان الحل توافقيًا:
"كان الواجب والصواب في آنٍ واحد أن يُستدعى إلى مصر فريق من الفنانين في الموسيقى القادرين على إدراك مغازي الموسيقى العربية وعبقريتها ليركبوا منها موسيقى خاصة يكون للآلات الموسيقية الوطنية نصيب من مجموع آلاتها. وبهذه الوسيلة كان يمكن التأثير في نفوس الجنود المصريين تأثيرًا موسيقيًا لا ريب فيه".
هكذا يُشير كلوت بك إلى نقطةٍ هامة في التاريخ الثقافي والاجتماعي في مصر والشرق بصفةٍ عامة، إن الانفتاح على الغرب قد حدث في لحظات الضعف والانسحاق أمام حضارة أوربا الغازية. وأدى ذلك ـ من وجهة نظر التيار الوطني ـ إلى سحق هويتنا الوطنية وجعلنا مسخًا أوربيًا، لم نعد شرقيون، ولن نكون غربيون، بل لن يقبلنا الغرب بسهولة في إطار حضارته.
وربما تعتبر إشارة كلوت بك في غاية الأهمية، إذ علينا أن نتخيل حركة وتدريب جنود جيش محمد عليّ، ومعظمهم من الفلاحين، وهم يقومون بواجبهم الوطني على أنغام موسيقى غريبة عنهم، لم يآلفوها، ولم يستسيغوها. بل والأكثر من ذلك وكما يُستفاد من نص كلوت بك، لم يبذل أحد مجهودًا في فهم الحاجات المعنوية لهؤلاء الجنود، وتقديم لون من ألوان الموسيقى يخاطب وجدانهم وتقاليدهم. إن هذه المسألة ربما تطرح علينا لماذا تأخر الوعي القومي لهؤلاء الجنود رغم انتصاراتهم العسكرية، إنهم كانوا محاربين أشداء، بينما كان الجانب الوجداني لا يُهتم به كثيرًا، أنا أحارب من أجل الباشا والسلطان، وعلى أنغام غربية بعيد كل البعد عن مشاعري وتقاليدي، وربما يفسر هذا تأخر نمو الوعي القومي المصري في فترة محمد عليّ.
وستدخل ثنائية "بلدي وأفرنجي" مجال الحركة الوطنية، ويلتفت إليها بشدة الكثيرين ممن تناولوا مسألة تطور المجتمع المصري. من أهم هؤلاء محمد عمر وكتابه المهم "حاضر المصريين أو سر تأخرهم"، هذا الكتاب الصادر في عام 1902، وفيه يعالج المؤلف عوامل تدهور المجتمع المصري آنذاك، ويطرح بعض الأفكار على سبيل التطور.
يشير محمد عمر في كتابه إلى هذه الثنائية الخطيرة "بلدي ـ أفرنجي" ودورها في ضياع الهوية المصرية. ويعتبر محمد عمر من أنصار الموسيقى العربية التقليدية لا سيما في أزهى عصورها العباسية والأندلسية. ولكنه ينعي حال الموسيقى العربية في مصر في مطلع القرن العشرين مشيرًا إلى دور التأثير الغربي في هذا الشأن:
"انتقلت بذلك الأغاني إلى دور الانحطاط، لا سيما وقد أفسد الإفرنج بها ذوقنا وسهلوا علينا طرق المفاسد لمآرب يرمون إليها فأخذت الأغاني في التأخر والسقوط إلى أن وصلنا إلى عصرنا الحاضر الذي أصبح المغني فيه متزوجًا بنائحة ليأخذ كل منهما بقسمٍ من الحزن والفرح حتى إذا كان هناك فرح دعوه وإن كان حزن دعوها".
هكذا نرى مدى تأثير ثنائية (بلدي ـ أفرنجي) في هذا الاتجاه، ونرى أيضًا رؤية محمد عمر إلى مدى الأثر السيئ ـ من وجهة نظره ـ الذي تركته حركة التغريب على الموسيقى الشرقية، مما دفع بعمر إلى حالة حنين إلى الماضي، إلى أيام ازدهار الموسيقى الشرقية في زمن العباسيين والأندلس، وهو حنين إلى الماضي نلحظه في العديد من الكتابات العربية في مواجهة حركة التغريب آنذاك. كما يمكن فهم هذه النصوص في إطار تطور الحركة الوطنية المصرية آنذاك وظهور الزعيم مصطفى كامل وبدايات الدعوة إلى إنشاء الجامعة المصرية والنهضة المصرية التي شهدها مطلع القرن العشرين.