الدين والتعليم في مصر عبر العصور
عندما نطالع المكتبة العربية نلاحظ ندرة الدراسات الجادة حول تاريخ التربية والتعليم، مع أهمية هذه الدراسات في تفهم تطور التعليم والحالة الحاضرة له.
ومن الدراسات الجديدة والجادة في هذا المجال الكتاب الجماعي الذي صدر تحت إشراف دكتوره نادية جمال الدين، أستاذ أصول التربية بكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، هذا الصرح العلمي الهام الذي ساهم في تطور الدراسات التربوية ليس في مصر فقط ولكن في جامعات العالم العربي، منذ تأسيسه على يد دكتور عبد الفتاح جلال.
تأتي أهمية الدراسة من موضوعها الشائق والشائك في الوقت نفسه، "الدين والتعليم منذ فجر التاريخ وحتى نشأة الدولة الحديثة بمصر"؛ إذ تعتبر الدراسة من الدراسات التصالحية مع مفهوم الدين، فهي لم تسقط في شراك الصدام مع الدين، أو الإفراط في إبراز دور الدين، إنما حاولت الدراسة قدر الإمكان "أنسنة الدين" أي إبراز الوجه الإنساني للدين، ودوره في دعم العلم والتعليم، لا سيما في بلدٍ مثل مصر، كانت بحق فجر الضمير الإنساني من ناحية الدين والتعليم والعلم. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الجماعية.
تبدأ الدراسة ببيان بدايات التعليم في عصور ما قبل التاريخ، وقبل الاستقرار وتأسيس الدولة؛ إذ بدأ التعليم بداياتٍ طبيعية أولية في نطاق الأسرة ورجال القبيلة أو القرية الكبار، ثم بدايات تعقد الحياة والتعليم من خلال نشاطات الحياة والعمل اليومي التقليدي.
ويعالج الفصل الأول من الكتاب التربية والتعليم في مصر القديمة، فيستعرض مؤسسات تعليم المرحلة الأولية، هذه المؤسسات التي كان بعضها في المنازل الخاصة أو في زاوية مهجورة أو في ردهة معبد أو بناء عام، أو حتى ما كان يتخذه المعلم تحت ظل شجرة في الهواء الطلق. ثم ينتقل لدراسة مؤسسات التعليم المتقدم (المتوسط) سواء عبر المدارس النظامية للكتاب، أو مدارس الإدارات الحكومية، موضحًا كيف كانت مهنة الكاتب من المهن المرموقة والمقدسة في مصر القديمة، هذا فضلاً عن مؤسسات الإدارات الحكومية (التعليم التطبيقي المتقدم)، والمؤسسات التعليمية في القصور الملكية، ومؤسسات التدريب الحرفي سواء في المنازل، أو ورش القصور الملكية وحتى ورش المعابد، لنصل إلى مؤسسات التعليم العالي (بيوت الحياة) التي كانت مؤسسات متخصصة تشبه الأكاديميات الحالية، وكانت من ملحقات دور العبادة.
وينتقل بنا الكتاب إلى العصر القبطي، وكيف غيرت مصر دينها لكن لم تغير حبها للعلم، ولا علاقة الدين بالتعليم؛ إذ انتقل التعليم إلى الكنائس والأديرة، كما شهدنا نوعًا من التعليم العام في المنازل والمعاهد والمصانع، رغم ما صاحب العهد القبطي من اضطرابات واضطهادات دينية.
وفي العصر الإسلامي يوضح الكتاب دور مؤسسة الأوقاف في دعم التعليم والعلم، وكيف فتح الكُتَاب والمسجد أبوابهما للجميع للتعلم دون تفرقة. كما رصدت الدراسة أهمية الحلقات العامة للمناقشة والحوار في الأسواق وإلى جوار حوانيت الوراقين، وخزائن الكتب العامرة.
وتُلخِص دكتوره نادية جمال الدين االعلاقة بين الدين والتعليم قائلةً:
"كان لمصر طريقتها المتميزة في التأثر بالأديان التي استقرت فيها بفضل اعتناق أهل مصر لها، والإضافة إليها، وانعكس هذا على مؤسسات التعليم ومحتواها وطرائق التعليم، وما نتج عن هذا كله من نتائج اجتماعية وعلمية وثقافية".