وائل خورشيد يكتب: رأيت فرخة تلد
لي صديق أعتبره ترمومتر الشائعات، فحينما يأتيني متجهما، ويبدأ في افتعال بعض الحركات لبدء حديث معي، أفهم تلقائيا أن شائعة جديدة سرت في الخفاء، وأنه تشبع بمعلومة "فالصو" من مكانِ ما، وجاء بها إليّ بصفتي صحفي، فهو يعتبر أن الصحفي من المفترض أنه عالم ببواطن الأمور كلها، مهما حاولت إفهامه أن هذا غير حقيقي، لا يقتنع، ولكن ما يشفع قليلا في الأمر، أنه يأتي بشائعات يسهل على طفل صغير دحضها؛ فهو من النوع الذي يصدق أن الفرحة تحولت جينيا وأصبحت تلد، إن كان هناك مؤامرة وراء هذا.
وإنهاءً لهذا الموقف المختنق، أسمع منه ومجرد أن ينطق، أكاد أضحك؛ لأن أغلبها معلومات تنافي المنطق تماما ودائما لديه المعلومة اليقينية التي رآها مطبوعة على صورة أرسلت له على "واتساب" أو "فيسبوك" من أماكن مجهولة الهوية.
مع انتشار فيروس كورونا مثلا، وظهور احتمالية أن يكون الفيروس مصنوع في مختبرات صينية بمدينة ووهان، بدأت تصلني فيديوهات على "واتساب" مصحوبة بموسيقى مقلقة في الخلفية، من أشخاص متعلمين، يتحدث فيها مجهولين عن أشياء مجهولة، حتى أن مدير منظمة الصحة العالمية تيودور أدهانوم، كاد أن يحلف على المصحف أنه لا يوجد ما يدعم ذلك، إلا أن الفكرة مازالت تستشري وتنتشر، وصديقي هذا مازال مقتنعا أن الفيروس مصنوع لا أفكار أخرى ممكنة، وبعضهم يظن أنه لا يوجد فيروس من الأساس، حتى أن تظاهرات خرجت في أمريكا وحمل بعضهم لافتات تشير لهذا الأمر، هذا طبعا إلى جانب فكرة أن الدولة تخفي حالات الإصابة الحقيقية بكورونا عن المواطنين، وإذا سألته عن السبب، لن يعرف.
قبل ساعات من كتابة تلك السطور، كنت في إحدى وسائل المواصلات، ويجلس بجواري شاب، بدأ الحديث عن كورونا، ثم أكد وأقسم بأغلظ الأيمانات أن هذا الفيروس تم تصنعيه في أمريكا، وليست الصين حتى، وأن الأخيرة ليس لها مصلحة في هذا، وأنه يكره ترامب لأنه "أبيض" وشكله لا يعجبه.
قد يكون كورونا مصنّع بالفعل، لا أنفي، ولكن حتى الآن الأمر شائعة لا دليل عليها، أما فكرة أنه غير موجود فلا تستحق عناء النقاش.
أقف عاجزا أمام فكرة تفشي الشائعات بهذه السرعة والرشاقة الشديدة والترحاب الواسع، يبدأها أحدهم ويرسلها لآخرين، وتنطلق هكذا دون سبب واضح، بدون تسويق حتى، أعتقد أن من يصل لحل هذا اللغز يكون قد امتلك كنزا يحقق من ورائه أرباحا هائلة من وراء الترويج لأي منتج دون مصاريف. أذكر أنني سمعت مرة شائعة بأذني من أناس موثوقين، لا أحب أن أذكرها هنا، شائعة شهيرة جدا، رواها بعضهم كأنما رأوها رؤيا العين، شائعة تشبه أن "القمر مربع"، وتبين أن كل هذا "بلح".
الغريب أني لا أرى هذا على حسابي الشخصي على "فيسبوك"، قد يكون السبب وراء هذا أن أغلب الأصدقاء عندي على قدر جيد من المعرفة والثقافة وسعة الأفق.
ناقشت الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، عن الأمر، وأحببت جدا فكرة "الحتمية النفسية" التي يرى "فرويز" أنها وراء الأمر، من أن هناك عوامل مسبقة دائما تدفع الأشخاص لتصديق هذا وتكذيب ذاك، دون سبب واضح حتى عند الأشخاص أنفسهم. وأشار أيضا إلى عدد من الأمور الأخرى مثل شخصية "أبو العريف" الذي يتباهى بمعرفته معلومات لا يعرفها أحد، نقلها عن قريب له أو صديق في مكان ما. كما أن البعض، والحديث مازال لـ"فرويز"، يحاول الدفاع عن فكرة، وبالتالي يدعمها بالمتاح، وهناك آخرين عندهم "حرمان عاطفي" ما يجعلهم ينشرون تلك الشائعات، بغرض الحصول على اعجابات وتعليقات على مواقع التواصل.
مازلت أفكر معكم في الأمر، يبهرني جدا هذا الانتشار، الذي قد يتفوق على المعلومة الصحيحة، وفي اعتقاد هؤلاء أن هناك من يحاول أن يخفيها، وكما هو معروف فإن "الناس تتذكر الخطأ وتنسى غيره"، وبالتالي فالقاعدة هنا "أن هناك أزمة ما، وهناك شيء يبدو سرا" أحدهم يكشفه، فينشره العارفون. أتعجب من هذا العالم الموجود حولنا الذي يمكنه أن يصدق الشائعة بسرعة شديدة جدا، ربما يكون نوعا من إثبات الذكاء، وأنك تفوقت على المعلومات المعدة مسبقا للإعلان.. وأنك تشك!
قال الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت عبارته الشهيرة: "الإنسان يجب أن يشك ولو لمرة في حياته" ولكن لم يقل أبدا كل حياته، وفي الكوجيتو الديكارتي يقول: "أنا أفكر إذن أنا موجود" وفي قول آخر "أنا أشك إذن أنا موجود". أن تفكر وأن تشك هو أمر صحي، ولكن أن يُعتبر هذا هو الدليل على الوجود أمر غريب، وإن صح هذا فهي ربما مسأله إثبات ذات، أن يحتاج البعض للتعبير عن تواجدهم في هذا العالم، عن طريق الاعتراض، والبحث عن خيوط المؤامرة، والتفكير فيما لا يستدعي التفكير، ومحاولة معرفة ما وراء هذا الشيء الذي ظهر طيفه ولا يتم الحديث عنه.
نحتاج أن نرقي حاسة تذوق الفروق بين هذا وذاك قدر المستطاع حتى لا نسقط فريسة لكل كلمة من هنا أو هناك.
وأختم بواحدة من أشهر الحكايات الطريفة عن الشائعات، وهي قصة "شيء خطير سيحدث" التي كتبها الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، والتي تتحدث عن امرأة تعيش في قرية، استيقظت في أحد الصباحات قلقة، فسألها أبنائها عن ما بها، فقالت إنها تشعر أن شيئا خطيرا سيحدث، ظلت الشائعة تتدحرج من رجل لامرأة لتاجر لمشترٍ، وبدأوا يلاحظون الأمور العادية كأنما أصبحت ظواهر وعلامات فجأة، حتى هجر كل أهل القرية بيوتهم وأحرقوها، وكانت معهم المرأة التي أطلقت الشائعة من البداية في رحلة الهجرة، وظلت تردد: قلتُ لهم إن شيئاً خطيرا سوف يحدث؛ فقالوا إنني مجنونة.