الناس والوباء.. والعصر العثمانى
درج المؤرخون على تحقيب الفترة من عام ١٥١٧ إلى عام ١٧٩٨ على أنها فترة العصر العثمانى، وما يعنينا هنا هو حالة الناس والوباء فى مصر فى ذلك العصر، وهناك عوامل أساسية ومستمرة معنا منذ العصر المملوكى، وصولًا إلى العصر العثمانى، وأهمها بطبيعة الحال مفهوم الدولة قبل الحداثة، وتقليدية دورها فى الشأن العام، إذ ينحصر دور الدولة فى تطبيق الشرع وحماية الرعية والجهاد، وبالطبع جمع الضرائب.
مقابل ذلك لا نجد دورًا أساسيًا أو سياسة عامة واضحة للدولة فى شئون الصحة والتعليم، إذ تركت هذه الأمور تُدار من خلال الهبات والتبرعات التى عرفت بالأوقاف، من هنا كان الدور الأكبر للتعليم من خلال الكتاتيب والمساجد، والرعاية الصحية من خلال البيمارستان، وأحيانًا بعض التكايا.
وأدان علماء الحملة الفرنسية، فى كتاب وصف مصر، هذا الوضع، وسخروا من انحسار دور الدولة فى شئون التعليم والصحة، وواضح أن هؤلاء العلماء كانوا ينطلقون من مفهوم «الدولة القومية الحديثة» الذى ساد آنذاك فى غرب أوروبا، حيث يعتبر التعليم والصحة من المهام الرئيسية للدولة.
الأمر الآخر استمرار اجتياح المجاعات والأوبئة المجتمع المصرى، وتعاقُب هذه المجاعات والأوبئة، وأحيانًا ارتباطهما معًا، مما ترك آثارًا وخيمة على الكثافة السكانية، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لا سيما فى القرن الثامن عشر.
كان الطاعون هو الوباء المستمر فى العصف بالمجتمع المصرى، بل وحوض البحر المتوسط بشكلٍ عام، ويظهر ذلك فى الفلكلور الشعبى فى الدعوة على الخصم «إن شاء الله تتطعن»، أى يُصاب بالطاعون.
لكن المستجد فى ذلك العصر كان الوباء الجديد والمرعب والذى سيستمر لقرون، وهو مرض الكوليرا، ويرى الباحثون أن مشكلة تلوث مياه الشرب كانت من الأسباب الرئيسية وراء انتشار هذا المرض، فعلى سبيل المثال كانت القاهرة تتزود بالمياه من خلال الخليج المتصل بالنيل، الذى يشق القاهرة، لكن هذا الخليج كان فى نفس الوقت فى حالةٍ يُرثى لها من جراء التلوث. ويحدث هذا من جراء انخفاض فيضان النيل، وبالتالى عدم اندفاع المياه وركودها، وبالتالى تلوثها، أو من خلال السلوك السيئ للسكان فى استعمال الخليج أيضًا كمصرف صحى، ما يؤدى إلى تلوث المياه بشدة، ويساعد على الأوبئة، فضلًا عن إلقاء المخلفات والقاذورات على جانبيه أو حتى فى مجراه، وكتب الرحالة الأجانب كثيرًا عن سوء حالة الخليج، إلى أن تم ردمه وأصبح الآن من أهم شوارع العاصمة.
ويأخذ علماء الحملة الفرنسية على المصريين فكرة التواكل، والقضاء والقدر، وأن الله هو الحامى والشافى، وبالتالى عدم التزامهم بالإجراءات الاحترازية، والاستمرار فى الاختلاط والصلوات، مما يساعد على تفشى الوباء.
من ناحية الفلكلور والوباء، يرصد ناصر أحمد إبراهيم فى دراسته المهمة عن الأزمات الاجتماعية فى مصر فى القرن السابع عشر، الأدعية باستخدام الجداول والأرقام للشفاء من الأوبئة، إذ يتم على سبيل المثال ترديد «يا حى يا قيوم» ألف مرة، واسم «الحفيظ» ٩٩٨ مرة، بينما اسم «الباقى» ١٣١ مرة، ويا «مقتدر» ٧٤٤ مرة، وإيمان الناس بذلك بشدة. وكان علينا أن ننتظر حتى القرن التاسع عشر وبدايات الدولة الحديثة، حتى نجد دورًا حقيقيًا للدولة فى رسم سياسة صحية، وشمول الناس بالرعاية الطبية.