صفين ومعاوية وعلى
ما زلنا نحيا فى أجواء «السقيفة»، فثقافة «سقيفة بنى ساعدة» وما وقع فيها هو ما يحكمنا ويسيرنا لليوم!، بل ونعيش أجواء موقعة «صفين» بشكل شبه يومى، فالأرواح التى أزهقتها داعش، والدماء التى أريقت سبق لها أن أريقت فى موقعة «أسيل» بقيادة رجل الحرب والدماء آنذاك «خالد بن الوليد»، وما كان لتلك الواقعة أن تحدث لولا وجود ووقوع حدث عرفناه فى التاريخ باسم حادثة السقيفة، والتى أدت فيما بعد للصراع والتطاحن حتى وصلنا لـ«صفين».
مات النبى وأمات الطامعون روحانية الدين بأطماعهم فظهر لنا الخليفة وأمير المؤمنين على يد من عاصروا النبى فى حياته، وبدأت السياسة وأمور الحكم تختلط بالدين ووقع الشقاق حتى وصلنا لما نحن فيه الآن، وذروة الشقاق ظهرت جليًا فى موقعة «صفين» وظهر مكر معاوية ولجوؤه لحيلة الاحتكام للنص الدينى والرجوع إليه بعد أن رفعه على أسنة الرماح الملطخة بالدماء!! ومن ثم «تأويله لمآرب» وسط أجواء المعركة التى كانت دائرة فى حينها.. ومن ثم إقحام النص الإلهى المطلق فى شأن دنيوى يخص الحكم والحرب والنزاع والصراع.
لقد صدر معاوية النص المقدس لأتباعه ومن يقاتلهم فانتصر على الجميع بعد احتكاره وتقويضه للنص واحتكار- تأويله- بجمود وأصولية لصالح أطماعه للسلطة والتسلط على العباد وصار الأمر من بعده منهاجًا أحدث الكثير من الفتن، بل هو السبب فى الفتنة التى يعيشها الشرق الأوسط الآن، والحروب الكلامية واللغو وسطوة الأصوليين على حيواتنا وبالتالى انتشار الإرهاب من ناحية والإلحاد كرد فعل عكسى مساوٍ للأصولية فى المقدار ومختلف معها فى الاتجاه!.
وخلال تلك اللحظة الوجودية الحاسمة فى تاريخنا القديم ظهر الحكيم السابق لعصره ونطق بمقولته الشهيرة المكونة من ٤ كلمات وفيها الحل الشافى لما كنا فيه بل وما نحن فيه الآن وما أحوجنا الآن لجملة «على بن أبى طالب» ولكن كم لدينا من عقلاء وراشدين، يمكنهم تذكر مقولة على بن أبى طالب، ليضعوا حدًا للفتن المستمرة منذ قرون، بل تشتعل الآن وتتأجج! فتنة لعن الله من أيقظها ويذكيها الآن!.
لقد أدرك «على» بفطنته وفراسته وفطرته- غير المشوهة- أن الكتاب المقدس «حمال أوجه» شأنه شأن جميع الكتب المقدسة بل وغير المقدسة. لقد قال علىّ نصًا واصفًا للقرآن «هذا الكتاب حمّال أوجه» والنصوص الإبداعية أيضًا حمالة أوجه والإبداع ليس سبة وليس نقيصة، فالنصوص المقدسة هى فى حقيقة الأمر نصوص إبداعية وهذا أمر يضفى عليها ثراء ولا يقلل من قداستها فى نفس الوقت، وبالتالى يقرأ النص الإبداعى المقدس على مستويات متعددة، وفقًا للتلقى وهو- بطبيعة الحال- شأن فردى وحالة فردية يختلف فيها التلقى من شخص لآخر، ولهذا السبب ظهر ٤ أئمة كل منهم له رؤيته ومنهاجه ومذهبه فى التفسير والتأويل والاجتهاد، والذى هو ليس حكرًا على أحدهم ولا على هؤلاء الأربعة ولا على غيرهم ممن سبقوهم أو لحقوا بهم.
النص الإبداعى، سواءً كان نصًا مقدسًا أو غير مقدس، لكل فرد- يقدر على القراءة- أن يرى النص ويقرؤه ويؤوله وفقًا لرؤيته هو وقدرته على التلقى ووفقًا لثقافته وخبراته السابقة وجميع العوامل التى أثرت فى تكوين وعيه وإدراكه وشخصيته.
ومن هنا يأتى الاختلاف «لا الخلاف» فى التأويل، ومن ثم تظهر الرؤى الفردية ووجهات النظر الاجتهادية، من يريد التشبث بحرفية النص شخص أصولى، ومن يرى فى النص ثراء ورحابة تجعله حمال أوجه هو الشخص المنفتح الفكر غير الأصولى الذى يقبل ويرضى بالاجتهاد ولا يغضب من الرؤية والتأويل، المختلف مع رؤيته وتأويله هو، الأصولى دومًا ما يتمثل ويتقمص شخصية ومكر معاوية فى موقعة «صفين».
أما من يمكن وصفه بالمجدد أو التنويرى- ذى الأفق المتسع الرحيب- هو الذى يأخذ بروح النص ولا يعانى من جمود فكرى ولا يرى أن تأويله هو الأوحد أو أنه فقط الأحق بأن يتبع وأنه الأعلم والناجى وحده من الضلال وأن غيره فى ضلال مبين هو من يتمثل «على» فى حكمته ورحابته وسعة أفقه.
وتوجد واقعة تاريخية تثبت وتؤكد تفرد «على» وإعماله عقله والنظر لروح النص قبل تطبيقه.. وأرى فى استعادتها اليوم مخرجًا لنا من تلك الفتنة التى خلقها الأصوليون فأوصلونا لداعش ومحاكاتهم لموقعة أسيل من جانب، بل وجعل الكثيرين يؤثرون الإلحاد كطريق آمن يبعدهم عن كل ذلك اللغو واللغط من جانب آخر.
الواقعة التاريخية تقول إن شخصًا ما وُجد قتيلًا ملقى على الأرض غارقًا فى دمائه فجلس بجواره ليتأكد من كونه ميتًا أو حيًا وتصادف ذلك مع مرور رجال الدرك الذين قاموا بالقبض على الرجل الجالس بجوار القتيل ويده ملطخة بالدماء فأسقط فى يد ذلك الشخص ولم يفتح فيه مدافعًا عن نفسه، لأنه كان على يقين أن أحدًا لن يصدقه واستسلم لمصيره الذى قدر له وأنه سيقتل بحكم القصاص «فمن قتل يقتل».
علم بالأمر القاتل الحقيقى فاستفاق ضميره وذهب للإمام علىّ واعترف بجريمته لينقذ البرىء من حكم القصاص، وعندما استمع علىّ لقصة القاتل واعترافه وإنقاذه للرجل البرىء احتار فى أمر من اعترف له بفعلته وأنقذ باعترافه شخصًا كان سيقتل ظلمًا وجورًا، لم يلجأ علىّ لشيوخ ولا أئمة أو علماء دين ليفتوا له.. بل حكّم عقله هو واستفتى قلبه وتعامل بروح النص الثابت المقدس الذى يقول بالقصاص وبأن من قتل يقتل، وأصدر حكمه - بوصفه الحاكم - وكان حكمه أن يعفو علىّ «الحاكم» عن الرجلين.. البرىء والمذنب وعلى قدم المساواة، واستند فى حكمه إلى النص المقدس الذى يقول «من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا». من سيتشبث بحرفية النص سيصدر حكمه بالقصاص من القاتل، ولن يلومه كثيرون، فالقصاص حق، ولكن علىّ رأى وارتأى لنفسه كحاكم للبلاد آنذاك أن يطبق روح النص وينظر لشقه الثانى الذى يقول «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا».. هكذا كان حكم علىّ واجتهاده، وكلا الحكمين جائز وفقًا لرؤية الحاكم أو القاضى، ووفقًا لاجتهاده فى تطبيق النص، فمن يريد تطبيق النص بحرفيته سيقتل القاتل، ومن يريد العفو عنه- كعلىّ- سيرى أن القاتل قد قتل نفسًا، هذا صحيح لكنه أيضًا أحيا نفسًا باعترافه وإنقاذه لنفس كانت على وشك الموت ظلمًا وله فى حكمه ورؤيته وتأويله للنص حكمة لا تخلو من وجاهة النصوص حمالة أوجه.. وليست حكرًا لشخص ما أو جماعة أو مؤسسة تريد التشبث بحرفية النص وتريد احتكاره لنفسها وفرض تأويلها له على العالمين بوصفها الأعلم وأنها وحدها على حق، بل إنهم ملاك الحق وملاك النص، فى حين أنه لا مطلقات ولا ثوابت.. النصوص والأحداث التاريخية تؤول وفقًا لرؤية من يريد تأويلها ووفقًا لاجتهاده، باب الاجتهاد مفتوح للجميع، الاجتهاد شأن فردى ومن حق كل فرد ممارسته وتطبيقه على نفسه دون فرضه على غيره أو الدعوة له بوصفه الحق المطلق، وأن غيره باطل وضال.
فلو كف مَن يدعون أنهم العلماء وأنهم الأعلم والأحق أياديهم عن خلق الله وتركوهم لخالقهم ليحاسبهم ستنتهى الفتن وستعلو قيمة الاجتهاد والفرد المجتهد والله حسيب الجميع بلا وساطة ولا وسطاء إن تحقق ذلك فهذا يعنى حرفيًا أن مبادئ العلمانية الرحبة هى ما ستسود وفقًا للقانون الوضعى، ولن يصبح الدين طريقًا للمرتزقة وستنتهى مهنة رجل الدين المتربح ذى السطوة وسيكون الحكم للقانون على الأرض ولخالق الكون فى السماء.. يوم الدين.