القاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية
اختارت منظمة إيسيسكو، «المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة»، القاهرة لتكون عاصمة الثقافة الإسلامية لعام ٢٠٢٠، وهو قرار حكيم لم يأتِ من فراغ، وإنما تأكيد للدور الذى لعبته القاهرة عبر تاريخها المجيد الذى يمتد لحوالى ألف وخمسين عامًا، ولا يأتى كلامنا هذا من فراغ أو محض شوفينية مصرية، وإنما لدورها فى العالم الإسلامى، وفى التاريخ العالمى.
لعل شهادة خير مؤرخى العصر الإسلامى، بل وخير مؤرخى العالم قاطبة فى عصره، «عبدالرحمن بن خلدون» صاحب التاريخ الشهير، والمقدمة الأكثر شهرة- خير دليل على ذلك، فعندما أتى ابن خلدون إلى مصر قادمًا من بلاد المغرب، انبهر بالقاهرة، الناس والمدينة، إذ وصفها بأنها: «حاضرة العالم وإيوان الإسلام»، ولذلك عاش بها ابن خلدون، وتولى منصب القضاء، وتوفى ودفن بها.
وبالفعل كانت القاهرة عبر تاريخها إيوان الإسلام، والدرع التى حمت العالم الإسلامى من أعتى الغزاة، علينا أن نتذكر مَن حمى العالم الإسلامى والقدس الشريف من الحملات الصليبية المتتالية، إذ لم يستطع صلاح الدين الأيوبى الوقوف أمام هذه الحملات إلا بعد مجيئه إلى مصر وحكمه لها، واستفادته من موقعها وإمكانياتها الاستراتيجية والاقتصادية، كما استطاع سلاطين المماليك الانطلاق من مصر بعد ذلك، للقضاء على آخر الجيوب الصليبية فى بلاد الشام.
وللقاهرة قصة جديرة بالنظر مع التتار الذين اكتسحوا العالم بأكمله، بل وأسقطوا عاصمة الخلافة الإسلامية «العباسية» بغداد. ويحكى التاريخ عن فظائع التتار فى بلاد العراق واجتياحهم بلاد الشام، ولم يستطع الوقوف أمام هذا الإعصار المدمر إلا سلاطين مصر، إذ انتصر السلطان سيف الدين قطز عليهم فى الموقعة الشهيرة «عين جالوت»، ولم يكن هذا الأمر مجرد نصر عسكرى فحسب، بل شَكّل انكسارًا لجحافل التتار أعداء الحضارة.
ومع سقوط الخلافة العباسية فى بغداد، وشعور العالم الإسلامى بالفراغ السياسى، نهضت مصر بمهمة عودة الروح، إذ تم إحياء الخلافة العباسية من جديد فى القاهرة، ولكن بشكل جديد يتناسب مع المتغيرات السياسية والاستراتيجية فى العالم آنذاك.
ويعتبر تاريخ الأزهر الشريف صفحة مهمة فى دور مصر فى الحفاظ على اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وعلى الرغم من نشأة الأزهر ليكون منبرًا للدعوة الشيعية، إلا أن القاهرة جعلته بعد ذلك مركزًا للعالم الإسلامى السُنى، وأصبح الأزهر هو المرجعية العلمية للإسلام والمسلمين. ولعل فى أروقة الأزهر خير دليل على ذلك، إذ ضم الأزهر أروقة للطلاب من شتى أنحاء العالم الإسلامى، فكان هناك على سبيل المثال رواق المغاربة، ورواق سنار لطلاب السودان، ورواق التكاررة لطلاب غرب إفريقيا، ورواق الشوام، ورواق الأتراك، وغيرها.
وحتى فى العصر الحديث كانت النهضة العربية والإسلامية بداياتها من مصر، مَن يُنكِر دور «رفاعة رافع الطهطاوى» الأزهرى الذى ذهب إلى باريس وعاد لمصر وللعالم الإسلامى بـ«تخليص الإبريز»؟، مَن ينسى دور «جمال الدين الأفغانى» وتلميذه الإمام «محمد عبده»؟، هل نتذكر عدد المجلات الثقافية التى كانت تُصدَر فى مصر بأهم لغات العالم الإسلامى: العربية والفارسية والتركية؟
كما قدمت القاهرة خير نموذج فى إحياء نمط العمارة الإسلامية من خلال ما عُرِف بالنمط المملوكى الحديث، والذى يعتبر مبنى وزارة الأوقاف فى القاهرة خير شاهد عليه، فضلًا عن الاستفادة به فى بعض الأبنية الاقتصادية.
وكانت القاهرة فى النصف الأول من القرن العشرين خير نموذج على التسامح وقبول الآخر، إذ عاش بها الجميع، مسلمين ومسيحيين ويهودًا، مصريين وعربًا وعجمًا وأتراكًا وأوروبيين، فى تجانسٍ فريد شهد به الكثير من الأجانب.
إنها بحق القاهرة التى نتمنى أن تعود من جديد «حاضرة العالم وإيوان الإسلام».