محمد إبراهيم طه: القصة هي الفن الذي يعكس قدرات الكاتب وموهبته
حصل الكاتب د. محمد إبراهيم طه على جائزة أفضل مجموعة قصصية، في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2013 عن مجموعته القصصية "امرأة أسفل الشرفة" ويستعد هذا العام للمشاركة بالمعرض من خلال مجموعته الأحدث "الأميرة والرجل من العامة" والصادرة عن دار النسيم للنشر، بالإضافة إلى مجموعاته الأخري: توتة مائلة على نهر، الركض في مساحة خضراء، طيور ليست للزينة. في لقائه بـ"الدستور" كشف "طه" عن حكايته مع كتابة القصة القصيرة، والتي بدأت من خلال قصة قرأها في جريدة، وكيف استخلص لنفسه عناصر حرفية في الكتابة خاصة القصة القصيرة، وغيرها من الموضوعات والقضايا.
ــ ما الذي لفتك إلي الاهتمام بالقصة القصيرة؟ وكيف بدأت تجاربك الأولى في كتابتها؟
قصة في جريدة، كانت أكثر ما لفت نظري لهذا الأمر، كانت مختلفة عن باقي مواد الجريدة، كانت تلقى إعجابًا كبيرًا عندي، وجعلتني أعطي هذا النوع من الكتابة أهمية أكبر من الكتابة الصحفية أو المعلوماتية، تلك المساحة المكتوبة والمترابطة أكثر من باقي المواد الصحفية بعنصر سردي خفي، وفيها حكي يصعد بالقارئ نحو الذروة ولها نهاية محتومة مع الكلمة الأخيرة، القصة كانت مثل كائن حي يستحوذ على مشاعري وقلبي وذهني أكثر من نظائرها من أخبار وتحقيقات أو مقالات لم أصبر على قراءتها وجفافها.
ــ هل قرأت شيئًا عن أصول هذا الفن القصصي أو طرائق كتابته؟
لم يكن يعنيني في هذا الوقت قراءة عن الأصول، والتقنيات، وطرائق الكتابة، قرأت يوسف إدريس ونجيب محفوظ وكتاب الستينيات يحيي الطاهر عبدالله، إبراهيم أصلان وبهاء طاهر وجمال الغيطاني ومن السبعينيات إبراهيم عبدالمجيد ومحمد المخزنجي والمنسي قنديل وجار النبي الحلو ويوسف أبورية، لم أبحث عن كتب في تعليم فن القصة القصيرة، كنت كمن يعزف سماعي، أكتب في نفس الوقت مستفيدًا من خلال قراءاتي لهؤلاء الأساتذة كأنني في ورشة ذاتية معتمدًا على متعة التلقي والاستمتاع والبحث عن جماليات الكتابة، وأتردد مع أترابي على ندوات محمد جبريل في المساء ومحسن الخياط في الجمهورية ونادي القصة.
ــ ما الذي يجعلك تختار إطار القصة القصيرة للكتابة دون غيره من أطر التعبير الأدبي ؟ هل يتعلق الأمر بحالتك النفسية أم بطبيعة الموضوع الذي تعالجه؟ أم أن إمكانية النشر هي التي توجهك إلى هذا الاختيار؟
أعتقد أن السحر الأول بقصة في جريدة ثم قراءاتي القصصية المتفرقة بمجلات قديمة اقتنيتها من سور الأزبكية هو ما دفعني لاختيار إطار القصة القصيرة اعتقادًا مني بأنها الأنسب والأسرع في الوصول إلى قلب القارئ، ثم ترسخ هذا الاختيار عندما تيقنت أنها الأبقى أثرًا في النفس بما تحمله من دراما وأحداث وبما تحمله من جماليات، فاللغة في المقال مهمتها التوصيل وهو أدنى مراتب اللغة، أما في القصة فهناك جماليات وأساليب أدبية لا توجد سوى في الشعر والقصة، وبمرور السنوات تأكدت أنه اختيار صحيح، والفرق بين القصة والمقال كالفرق بين الغناء والكلام العادي.
ــ ما الذي تهدف القصة القصيرة عندك إلى توصيله للقارئ؟ وهل تتمثل قارئك وأنت تكتب؟ ومن قارئك؟
أهدف أن تصل القصة كما أريد لها، أن تظل باقية، وأن تنتزع من القارئ الآهة والشهقة كشخص يستمتع بتلاوة لقارئ يحبه، أو مقطع من أغنية لمطرب يعشقه، أو حتى للعبة حلوة للاعب موهوب ذو مهارات عجيبة ومدهشة، لذا تبتعد القصة عندي عن العادي، وعن الثرثرة وتركز كل أدواتها وجمالياتها في اللقطة أو الحالة أو الحدث الذي خلقت من أجله.
ــ ما مدى الزمن الذي تستغرقه كتابتك لإحدى القصص القصيرة؟ وهل تواجه أحيانا بعض الصعوبات في أثناء الكتابة؟ مثل ماذا؟
لكتابة قصة قصيرة واحدة ربما تصل المدة إلى شهر أو أكثر، وقد تسفر المحاولة عن فشل وعدم رضا فيكون مصيرها أن تظل هكذا مسودة إلى أن يأتي وقت وتدفع بنفسها للاكتمال أو التحور إلى قصة أخرى بمنظور آخر، الأمر ليس سهلا بالتأكيد، ولا يخلو من منغصات وصعوبات ومآزق فنية بخصوص اللغة والأسلوب ووجهة النظر وزاوية الرؤية وراوي القصة انتهاء بالعنوان، لكن السعادة تمحو كل ذلك حين أتغلب في النهاية على هذه العقبات بشكل فني وإيجاد مخارج فنية.
ــ هل استطعت من خلال ممارستك لكتابة القصة القصيرة أن تستخلص لنفسك بعض العناصر الحرفية التي تسعفك عند الكتابة؟ مثل ماذا؟
نعم، استطعت، وصارت هذه العناصر مبثوثة داخل القصص عندي بما تمثل إجمالًا "أسلوب خاص" كبناء جملة، والربط بين مشهدين وجملتين، واللجوء إلى التقسيم والترقيم حين تكون الروابط بين الفقرات بعيدة.
ــ هل تهتم في كل قصة قصيرة تكتبها بأن يكون لها مغزى بالنسبة إلى الأوضاع الاجتماعية المعاصرة؟
أنا ضد تسخير الفن والقصة القصيرة خصوصًا لخدمة أغراض اجتماعية أو حل مشاكل اجتماعية مباشرة، هذه قضايا اجتماعية محلها الجرائد والبرامج الإعلامية والحوارية، والأمر حين ذلك يبدو كأنك تستخدم حصان سباق في جر عربة كارو، لكن الموضوعات الاجتماعية والإنسانية دون تحديد أو تعيين هي ملعب قصصي القصيرة، فالبيئة مصرية بامتياز والشخوص هكذا والطبقات الاجتماعية بما بينها من فروق وتجاذبات وتنافرات هي موضوع قصصي وإن بشكل غير مباشر، شكل يحتفظ للقصة القصيرة بسموها وجمالها.
ــ كيف يكون مدخلك إلى القصة القصيرة؟ وهل يتجه اهتمامك إلى الحدث أم إلى الشخصية؟
القصة القصيرة حالة، لا بد أن تكون محلقة، مرتفعة قليلًا عن الواقع، تترفع عن رصد حدث ما ينتهي بمجرد انتهاء القصة، أو تتبع شخصية ما مهما كان حضورها، إنما تطمح القصة عندي إلى التقاط حالة محلقة، يكون فيها الحدث والشخصية ثانوية أو في الخلفية، والأولوية في السرد التأمل وليس الإخبار، وأن يكون الشغل الشاغل هو تجسيد ما لا يقبل التجسيد والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، وتكتمل القصة عندي عندما أمسك بهذه الحالة، وتكون القصة في هذه اللحظة أقرب إلى مقطوعة موسيقية.
ــ هل ترى فيما أنجزت حتى الآن من قصص قصيرة أنه يمثل مراحل تطور متعاقبة ؟ فإن كان فكيف تري نتيجة هذا التطور ؟
هذا متروك للنقاد والباحثين، لكنني أعتقد أن ما أنجزته يمثل على الأقل بالنسبة لمشواري في الكتابة القصصية تطورا في نهج الكتابة، فملامح القصة القصيرة تختلف في البناء والأسلوب واللغة عن قصص الرواد، أقصد قصة الخمسينيات والستينيات، وهي بقدر ما تشترك معها في الكثير، فإنها تختلف معها أيضا في سمات وملامح تكاد أن تكون مميزة لي شخصيا، ومميزة للفترة التي أكتب فيها، وممثلة للقضايا التي تطرحها، فقد اعتمدت البناء الدائري، والمراوحة في السرد جيئة وذهابا (للأمام والخلف) حتى تكتمل القصة بدلا من البناء التصاعدي التقليدي، والذي تؤدي فيه (أ) إلى(ب) إلى (ج)، مع وجود عذوبة لا تخطئها العين في الأسلوب والتي تقترب من الغنائية، والرصد المتأني للشخوص والأشياء والذي يأتي بصورة متقطعة ومطردة مع تقدم السرد حتى تكتمل الصورة بنهاية النص، وهو ما يخلق أكثر من ذروة في القصة الواحدة، ويجعل من النص عالما قصصيا ظاهره التلقائية والبساطة وباطنه بناء بالغ الصرامة.
ــ إذا كنت قد انصرفت عن كتابة القصة القصيرة إلى غيرها من الأجناس الأدبية فمتى حدث هذا ؟ ولماذا ؟
لم أنصرف عن كتابة القصة القصيرة، لكنني أجمع بينها وبين الكتابة الروائية، ليس تحولا أو انصرافا، إنما استغلالا لفنيات وشروط كل فن وخواصه، القصة والرواية باعتبارهما ينحدران من نوع واحد، فلي عشرة كتب: خمس مجموعات قصصية وخمس روايات، وترتيب الصدور لم يكن مقصودا، لكنه هكذا مجموعة قصصية تليها رواية وهكذا، فللقصة السبق دائما، وللقصة الحب أيضا وتظل هي الفن الأصعب والأكثر تمثيلا لقدرات الكاتب وموهبته ربما أكثر من عالم الرواية مترامية الأطراف، فالكلمة الزائدة في القصة تمثل عيبا وخللا فنيا، بعكس الرواية التي تسمح بالاستطراد والثرثرة وسبر أغوار الشخوص وتعميق الأحداث، وما لم تنتبه إليه، تجد نفسك بسهولة خارج إطاره الفني المحكم والصارم، وتدخل في أطر أخرى روائية أو مسرحية أو سينمائية.
ــ كيف ترى مستقبل هذا النوع الأدبي؟
القصة القصيرة ليست في أزمة، ولا تعاني من مآزق، ولا تمر كتابتها ولا تلقيها بمشاكل، وما قيل سابقا عن موت القصة القصيرة غير صحيح، وإنما كان بسبب مقولة زمن الرواية التي أطلقها د. جابر عصفور وأعقبت فوز نجيب محفوظ بنوبل، لكن لأننا كسالى نفضل ترديد المقولات بلا تفنيد ولا استقراء للواقع، فحدثت أزمة موت القصة القصيرة، وحجبت ذات مرة جائزة الدولة التشجيعية في القصة لضعف مستوى الكتب المقدمة، وراجت هذه المقولة لسنوات حتى صارت كأنها حقيقة، فالناشر صار يفضل الرواية على القصة والقارئ يسير على نفس نهج الناشر، والكاتب غير الحقيقي يركب الموجة، فيهجر القصة إلى الفن الأكثر رواجا، الرواية التي رصدت لها جوائز مصرية وعربية تكرس للرواية دون القصة، وكاتب بهذا الشكل وناشر وقارئ بهذا الشكل لا يعول عليهم إذا كان بإمكانك في غضون سنتين أن تعدل الكفة لصالح القصة بنسبة 90 في المائة لو رصدت خمس جوائز فقط قيمة ماديا لفن القصة القصيرة، والمفترض أن يكتب الكاتب ما يشعر به لا ما يتلاءم ومعايير جائزة، ولذلك ستجد في الرواية موضوعات تتوجه حسب الجوائز لا حسب قناعات الكاتب أو متطلبات الفن الروائي، كأن تجد هوجة باتجاه الرواية التاريخية، أو إصرار على كتابة رواية كبيرة الحجم حتى لو لم يتحمل الموضوع لأن الجائزة تتطلب أعمالا روائية تتجاوز 500 صفحة وهكذا.