العروبة.. مفهوم ثقافى أم نظام إقليمى؟
لا أدرى لماذا كان يلح علىَّ هذا السؤال فى السنوات الأخيرة: «ما هى العروبة؟.. مفهوم ثقافى أم نظام إقليمى؟». تربى جيلنا على سماع كلمة العروبة حتى قبل أن يعى معناها، أتذكر أننا فى المدرسة الابتدائية، وفى طابور الصباح كان ناظر المدرسة يصيح: «مدرسة صفا»، فيرد الطلاب مع قيامهم بالحركة المطلوبة: «قومية»، فيعود الناظر صائحًا: «انتباه»، فيقوم الطلاب بأداء الحركة مرددين: «عربية!»، هكذا تربى جيلنا على سماع كلمة القومية العربية منذ نعومة أظافره.
لكن السؤال القديم حول ماهية العروبة يُطرح الآن من جديد، فى ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية الحادة التى تؤثر بشكل كبير فى منطقتنا العربية. يحتار المرء فى الرد على السؤال التقليدى: لماذا لم تتطور الجامعة العربية إلى اتحاد عربى، على الرغم من أن جامعة الدول العربية نشأت قبل الاتحاد الأوروبى وقبل الاتحاد الإفريقى؟ لماذا نجحت دول أوروبا، على كل تناقضاتها، فى الوصول إلى شكل الاتحاد الأوروبى الحالى، ولم ينجح العرب فى الوصول إلى حلمهم القديم «الوحدة العربية»؟، لماذا نجحت منظمة الأمم الإفريقية فى تطوير حالها والانتقال إلى مرحلة متقدمة لإعلان الاتحاد الإفريقى، وفشل العرب فى كل مساعيهم الاتحادية؟!.
ووجدتنى أستعرض كل مشاريع العرب «الوحدوية» طيلة القرن العشرين، وأحاول تقييمها، ولماذا كان مصير غالبيتها- إن لم يكن كلها- الفشل؟ بالطبع هناك العديد من العوامل وراء هذا الإخفاق، لكن ربما يأتى على رأس ذلك أننا بدأنا بالعامل السياسى، لم نبدأ الخطوات بشكل عملى وبرجماتى، وإنما بدأنا بشكل عاطفى ومحاولة القفز على درجات السلم مرة واحدة، ولذلك كان السقوط الكبير فى كل مرة، وكانت الأحلام أكبر بكثير من الواقع، لم نستثمر جيدًا فى المسألة الثقافية، لم ندرك أن الثقافة والتعليم هما أساس نجاح أى مشروع سياسى.
لم ندرك أن نجاح أى مشروع وحدوى لا يعتمد على الأمنيات الطيبة أو الكلام المعسول، وإنما على الجانب المادى والاقتصادى والحياة اليومية للشعوب، لماذا أتذكر فيلم «الحدود» للجميل الفنان دريد لحام ومشكلته فى عبور الحدود، لدرجة أنه أصبح عالقًا على حدود بلاد «الوطن الواحد»، والكوخ الذى بناه على الحدود، وزواجه، ثم حزنه عندما علم أن امرأته حامل، إذ سيولد ابنه بلا هوية، عالقًا بين بلاد شمال ستان وجنوب ستان، وشرق ستان وغرب ستان، فى سخرية واضحة من مسألة الحدود؟.والطامة الكبرى مؤتمرات الإعلام والخُطب الرنانة فى الدفاع عن قضية المواطن «العربى» عبدالودود، وحقه فى التنقل فى الوطن العربى الكبير، ليستيقظ المواطن بعد انفضاض المولد السياسى على الحقيقة، وهى جواز السفر وفيزا العبور.
نعم، لم ننتقل إلى خطوات الاتحاد الأوروبى الذى لم يهتم كثيرًا بمسألة اللغة الواحدة، بل والتاريخ الواحد، وبنى وحدته على أساس المصالح الواحدة، ولذلك فتح الحدود، واعتمد سياسة العملة الواحدة «اليورو»، ولم يسأل الألمانى نفسه عن التاريخ الدموى السابق بين ألمانيا وفرنسا، والصراع على الحدود، لأنه ببساطة أصبح ينتقل عابرًا الحدود دون فيزا، فأصبحت أوروبا كلها وطنه، وتم ربط أوروبا بشبكة مواصلات برية ومصالح اقتصادية، وبدأ تدعيم ثقافة أوروبا الجديدة.
هل نتعلم نحن من تجربة الاتحاد الأوروبى أو حتى الاتحاد الإفريقى؟ هل نبدأ من جديد من خلال التركيز على الثقافة والتعليم وتدعيم المصالح الاقتصادية المشتركة، وننسى أحلام الماضى «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»؟