الأفندى.. والبطيخة!
ربما يستغرب شباب اليوم هذا العنوان الذى اخترته للمقال، إذ لم نعد نسمع الآن هذا اللقب «الأفندى»، وهو اللقب التاريخى الذى مر بمراحل وتقلبات متعددة، وربما يسمعه البعض الآن فى أفلام الأبيض والأسود، ولكن لا يفهم معناه والسياق التاريخى والاجتماعى المصاحب له.
جالت بخاطرى كل هذه الأفكار بعد مشاهدة الفيلم الروائى القصير الرائع «البطيخة» للراحل الكبير محمد خان، وتصوير عاشق الناس والشارع المصور الكبير سعيد شيمى. الفيلم تدور قصته حول الحياة اليومية لأحد صغار الموظفين فى القاهرة عام ١٩٧٢، معاناة الموظف «الأفندى» الذى يستيقظ على أصوات احتياجات المنزل: الزوجة والأولاد، يستيقظ رغم أنه فى مكتبه الحكومى، إذ يلعب المخرج لعبة الفلاش باك، ونتابع رتابة العمل الحكومى مع صوت الآلة الكاتبة، ثم رحلة عودة الموظف إلى منزله، ومعاناة الشارع وزحام الأتوبيس، واللقطة العبقرية للموظف الذى يعانى من الحر أثناء سيره فى الشارع فيضع المنديل «القماش» على رقبته وياقة القميص ليمتص العرق!
وبعد رحلة معاناة يعود الموظف «الأفندى» إلى منزله، لم يستطع أن يُلبى احتياجات أهل البيت، لكنه يعود فى حالة زهو وفخر حاملًا معه «بطيخة». وتنتقل الكاميرا إلى داخل البيت المتواضع للأفندى والزوجة «تشق» البطيخة وتقطعها قطعًا وتضعها فى الثلاجة، بينما الموظف يخلع ملابسه، ويبقى بملابسه الداخلية لينام بعض الشىء، أو «يقيِّل» أى نوم القيلولة. وتنتقل الكاميرا بعد ذلك إلى الأسرة على المائدة تلتهم بنهمٍ قطع البطيخ لتطفئ لهيب صيف القاهرة الحار. عجز الموظف عن الوفاء باحتياجات الأسرة، لكن البطيخة استطاعت زرع البسمة والرضا على وجوه الجميع. وبالفعل ارتبطت صورة الموظف فى أذهان أجيال متعاقبة بصورة الأفندى العائد إلى منزله بكيس الفاكهة فى الشتاء، أو البطيخة فى الصيف.
كانت هناك ألقاب أساسية فى المجتمع المصرى لعقودٍ طويلة، مثل «الباشا» «البك» أو «البيه» و«الأفندى»، ورغم إلغاء الألقاب بعد ثورة ٢٣ يوليو، إلا أن ألقابًا مثل الباشا والبيه ما زالت تتداول على سبيل التفخيم، بينما اختفى تمامًا لقب الأفندى الذى كان علمًا على صغار الموظفين. فما هو الأصل التاريخى لكلمة «الأفندى»؟
يفاجئنا د. حسين مجيب المصرى فى كتابه المهمم «معجم الدولة العثمانية» بأن الأصل التاريخى لكلمة «أفندى» ليس تركيًا بل يونانيًا، حيث تسرب المصطلح من الدولة البيزنطية إلى الأتراك السلاجقة، أى قبل العصر العثمانى، وأنه منذ النصف الثانى من القرن الخامس عشر أُطلق عند الأتراك العثمانيين على المتعلم أو الأستاذ، وفى القرن التاسع عشر أُطلق رسميًا على الأمراء العثمانيين، كما أُطلق على من عَلت رتبتهم من رجال الدين المسيحيين، كما خوطِب بهذا اللقب ضباط الجيش حتى رتبة البكباشى.
هذه هى رحلة لقب «الأفندى» وتحولاته عبر التاريخ، وربما انقرض لقب «الأفندى» ولكن بقيت البطيخة- رغم ارتفاع الأسعار وتدنى قيمة الجنيه- مصدرًا لبهجة الأسرة المصرية فى شهور الصيف الحارة.