أرمينيا.. الجميلة المُعذَبَة «1-2»
نشأتُ فى حىّ شبرا الذى طالما عاش فيه العديد من الجاليات، فى ظل التسامح والمحبة التى عرفتهما مصر، وكان من أهم الجاليات فى ذلك الوقت الجالية الإيطالية، التى انكمشت سريعًا مع الحرب العالمية الثانية، والجاليتان اليونانية والأرمينية.
لا أُخفيكم سرًا أننى فى طفولتى كنت أربط بين الجاليتين اليونانية والأرمينية، وربما يرجع ذلك إلى انتماء كلتيهما إلى المذهب الأرثوذكسى مثل الكنيسة القبطية. وكنت أعتقد أن أرمينيا تقع بجانب اليونان، وكم كانت دهشتى بعدما كبرت بعض الشىء عندما كنت أنظر إلى خريطة العالم فى المدرسة ولم أجد أرمينيا بجانب اليونان، والأشد إثارة أننى لم أجد أرمينيا على الخريطة!.
وبعد دخولى الجامعة ودراسة التاريخ، كُشِف لى سر أرمينيا، ولماذا هى غائبة عن الخريطة؟ اكتشفت أولًا أن هناك جمهورية اسمها «جمهورية أرمينيا» لكنها لا تظهر على خريطة العالم، لأنها فى الحقيقة تقع داخل الاتحاد السوفيتى، أو ما كان يُسمى رسميًا «اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية»!
الاكتشاف الثانى كان إجابة عن سؤال كان يدور فى ذهنى وأنا طفل: لماذا يوجد أرمن فى شبرا، أو فى الحقيقة فى مصر؟ اكتشفت أن الوجود الأرمنى فى مصر يرجع إلى التاريخ القديم، وعندما تخصصت فى التاريخ الحديث عرفت أن أحد أهم رؤساء وزارات مصر هو أرمنى «نوبار باشا»، الذى لعب دورًا مهمًا فى إدارة بناء الدولة المصرية وعملية التحديث.
لكن تزايُد أعداد الأرمن فى مصر ربما يعود إلى ظروف الحرب العالمية الأولى، حيث دخلت الدولة العثمانية الحرب مع دول الوسط ضد الحلفاء، على رأسها بريطانيا وفرنسا، وفى أثناء الحرب وجه العثمانيون إلى الأرمن تهمة الاتصال بالحلفاء والعمل ضد الدولة العثمانية، وبدأت عملية اضطهاد منظم ضد الأرمن راح ضحيتها الكثير منهم، ونجح بعض الأرمن فى الفرار من ذلك الجحيم، ووصل بعضهم على سفينة إلى ميناء بورسعيد، حيث استقبلتهم مصر كعادتها مع الجميع.
جدير بالذكر أنه كلما ضعفت الدولة العثمانية زاد اضطهادها للجميع، إذ اتهم القادة العثمانيون العرب بالاتصال بالحلفاء وخيانة الدولة العثمانية، وبدأت مذابح «جمال باشا» فى بلاد الشام، والمحاكمات الصورية للزعماء العرب، وإعدام الكثير منهم شنقًا فى الساحات لإرهاب الآخرين. هذا هو فصل من التاريخ المشترك بين العرب والأرمن.
عودة مرة أخرى إلى الجميلة المُعذَبَة، أرمينيا، حيث تمت أكبر عملية نزوح جماعى للأرمن من أراضيهم، التى تقع الآن فى جنوب شرق تركيا، وتفرق معظمهم فى أرجاء المعمورة، وفر بعضهم إلى ما عُرف بعد ذلك بأرمينيا السوفيتية، ولم يقبل الأرمن الحكم السوفيتى إلا حماية لهم من التعسف العثمانى فى سنوات الدولة العثمانية الأخيرة، هذا التعسف الذى قضى على كل الأسس التى قامت عليها الدولة العثمانية فى بداياتها.
لن أنسى عيون الأرمن فى «يريفان»، عاصمة أرمينيا، وهى تتطلع إلى الجبل الرمز «أرارات»، الذى يقع على مرمى البصر فى الأراضى التركية، مضيفًا قصة عذاب جديدة لأرمينيا الجميلة والمُعذَبَة عبر التاريخ.
وهذا موضوع المقال المقبل.