خواجاية فى صعيد مصر
يعتبر أدب الرسائل من أهم وأندر ما يعتمد عليه المؤرخ فى كتابة التاريخ الاجتماعى، ويرجع ذلك إلى أن الرسائل بطبعها تحمل تلقائية الكاتب وتفاعله الشخصى بالحدث والناس الذين يكتب عنهم، كما تحمل الرسائل بكارة الانفعالات الأولى التى نفتقدها فى الكثير من المذكرات الشخصية، التى هى فى حقيقة أمرها ذكريات كُتبت بعد الحدث التاريخى، وبالتالى تفقد الكثير من النضارة والانفعالات البكر والمصداقية.
مع اختراع السفينة البخارية أصبح العالم فى متناول الكثيرين من ناحية سهولة السفر، وسرعة إرسال البريد، ويعتبر القرن التاسع عشر ذروة هذا الأمر، صاحبت ذلك حالة من الولع بالشرق فى أوروبا، لذلك وجدنا الإقبال على نشر رسائل الرحالة الأوروبيين إلى الشرق، وكانت هذه الرسائل عند نشرها فى كتب تصبح من أكثر الكتب مبيعًا، ولا أُبالغ فى القول إنها أصبحت تشكل الوعى الأوروبى بالشرق.
من أهم هذه الكتب كتاب ليدى دوف جوردون «رسائل من مصر»، حيث نحتفى هذه الأيام بخروج الترجمة الكاملة للرسائل لأول مرة هذا العام، إذ عكف على هذه الترجمة الأديب الكبير «إبراهيم عبدالمجيد». ولم أستغرب خطوة «إبراهيم عبدالمجيد» وإقدامه على ترجمة تلك الرسائل المهمة، فهو مولع بقراءة التاريخ، حيث يظهر ذلك جليًا فى معظم رواياته، لا سيما ثلاثية الإسكندرية، حتى أن رواياته تحولت، بشكل ما، إلى مصدر مهم يمكن للمؤرخ غير التقليدى معالجته والاستفادة منه فى كتابة تاريخ آخر.
وترجع أهمية رسائل «ليدى دوف جوردن» إلى العديد من الأسباب، إذ تُعد الكاتبة من أهم الكاتبات فى الأدب الإنجليزى فى القرن التاسع عشر، كما تغطى الرسائل فترة مهمة من تاريخ مصر من عام ١٨٦٢ إلى ١٨٦٩، أى فترة حكم الخديو إسماعيل، كما عاشت المؤلفة فى أقصى صعيد مصر ودُفنت فى مصر أيضًا. عاشت المؤلفة وسط البسطاء من الناس، وقامت بعلاجهم، وأحبها هؤلاء الناس حتى أطلقوا عليها «الشيخة الست نور على نور»، ما يدل على تسامح المصريين وقبولهم الآخر طالما بادلهم الحب بالحب.
احتوت الرسائل على وصف ثرى ومثير عن الموالد فى صعيد مصر، لا سيما مولد سيدى أبوالحجاج ومولد سيدى عبدالرحيم القناوى، وربطت بين العبادات المصرية القديمة، والتبرك بالقديسين المسيحيين والأولياء المسلمين فى صعيد مصر.
كما تحدثت عن البعثات الأثرية الأجنبية لاكتشاف الآثار فى صعيد مصر، ورصدت عمليات كثيرة لسرقة ونهب الآثار المصرية القديمة لصالح أوروبا.
وتُصوِّر ابنتها اللحظات الدرامية التى صاحبت وفاة أمها «ليدى دوف جوردن»، مريضة السُلّ، قائلة: «كان العامان الأخيران من حياة أمى معركة طويلة مع المرض القاتل..وحين أتتنا أخبار موتها فى القاهرة فى ١٤ يوليو ١٨٦٩ كانت رغبتها أن تُدفن بين أهلها فى الأقصر، لكنها حين عرفت أنها لن ترى الأقصر ثانية أعطت أمرًا بأن تُدفن بأسرع ما يمكن فى مقابر القاهرة.. وأى عزاء لها التقطته من مساعدة جيرانها المصريين الفقراء الذين أحبوها حتى العبادة، ولم ينسوا قط السيدة العظيمة التى كانت خيرًا عظيمًا لهم».