البلد الكبير
فى أحد الاحتفالات الأكتوبرية على ما أظن.. جاءت المطربة اللبنانية نانسى عجرم لتغنى لمصر والمصريين، فكتب لها جمال بخيت، ولحن وليد سعد.. وسمعنا.. «خدو بالكو دى مصر المنصورة.. مش أيها مصر».. يومها توقفت كثيرًا أمام «مقولة جمال بخيت والمعنى اللى فى بطن الشاعر»، وسألت مَن بجوارى: هل هى أكثر من مصر إذًا.. هوه فى مصر تانية؟! بالتأكيد هناك «أمصار أخرى».
أتذكر ذلك المقطع من غنوة نانسى كلما حدثنى أحدهم عن أولئك الذين يقفون بالآلاف فى الساحل أمام عمرو دياب الذى يغنى لـ«تلت بنات عزموه على غدوة».. أو تلك الآلاف المؤلفة التى تقف بالطوابير أمام المولات لتحجز «آى فون جديد».. وآلاف أخرى فى المستشفيات.. أو أمام فروع بنك الإسكان تحجز شققًا.
وقتها يقول صاحبى: «دى مش بلد واحدة.. إحنا كتير بجد.. أيوه إحنا كتير.. إحنا بلد كبير»، ليس فقط بالجغرافيا وقياس المساحات.. ولا بالتاريخ طوله.. إحنا بلد كبير بناسُه.. بأحلامه.. وقدرته على تحقيقها.. بالتاريخ والجغرافيا والحساب والموسيقى.. بالذين يعملون والذين لا يعملون.. مصر كل التفاصيل الصغيرة التى نعيشها يوميًا ولا يجوز ولا يصح أن نقارنها بأى مكان آخر فى العالم، حتى لو كانت أمريكا التى يقولون زورًا إنها «سيدة العالم».
لست من هواة تلك العنصرية البغيضة التى ترى أننا أصحاب أحسن هوا.. وأحسن شمس.. وأحسن سما.. وكده.. تلك الأغنيات التى مللنا من ترديدها فى سنوات الثمانينيات من القرن الماضى.. لأننى أعرف أن كل مكان فى العالم به ما يميزه.. وفيه ناسه اللى بيحبوه ويعيشونه فى كل طلعة نفس ونزولها.. وأحترم محبة الآخرين لأوطانهم، كما أحب بلدى وناسى.. لكننى أيضًا أعرف أننا بلد كبير.. كبير فعلًا.. ولأننا بلد كبير من الطبيعى أن تكون أحلامنا كبيرة.. ومشاكلنا كبيرة أيضًا.
لذلك أستغرب من أولئك الذين يعتبرون ظهور أى خلل فى منطقة ما فى حى شعبى مثلا «مشكلة كبرى.. وتقوم الدنيا ما تقعدش».. وأستغرب أكثر من الذين يعتبرون مجرد مناقشة تلك المشكلة والسعى لحلها «عيب كبير أيضًا»، فى لحظة نسعى فيها كلنا إلى البناء.. الأمر طبيعى من وجهة نظرى.. أن يقوم غشاشون مثلًا «ببيع» أدوية منتهية الصلاحية فى «كام صيدلية» فى محافظة ما من محافظات مصر.. والطبيعى جدًا أن يتحدث الإعلام عن ذلك.. وطبيعى أيضًا أن تكشف الجهات الرقابية تلك المخالفات وتحيل أصحابها إلى جهات التحقيق.. ولنا أن نفرح بذلك ولا يضايقنا إطلاقًا.. فالذين يعيشون تحت سماء هذه البلاد ليسوا جميعًا من الملائكة المنزلين.. فيهم من يُعمّر كل يوم أرضًا.. ومن يبنى مسجدًا.. وفيهم أيضًا من يتاجر فى «الترامادول».
وهكذا الحال فى الأندية.. والأحياء.. والمقاهى.. وفى أوساط المثقفين.. ومصر تضم كل هؤلاء فى صدرها.
أقول هذا وأصدقه «فيما أنا أمتعض من تصريحات المتحدث الرسمى لمحافظة الجيزة الذى أصدر بيانًا بعد منتصف ليلة أمس الأول.. يزف لمواطنى هذه المحافظة الكبيرة أن محافظها ولجنة كبيرة من موظفيه قامت قرب منتصف الليل بزيارة إلى محطة مياه الشرب فى الوراق، للوقوف على أسباب شكاوى أهل المحافظة من الانقطاع المتكرر لمياه الشرب والتى وصلت فى بعض المناطق إلى ٢٠ ساعة يوميًا وربما أكثر.
حسنًا فعل السيد المحافظ أن استمع أولًا إلى شكاوى الناس.. وحسنًا فعل أنه صدق أنها لم تكن شكاوى كيدية- كما قال مسئولو شركة المياه- وحسنًا بالقطع أنه تحرك من مكتبه وذهب ليعرف على الطبيعة.. لكن البيان يشير إلى مسألة عجيبة فعلًا.. حيث يؤكد أن «الطحالب» حاصرت محطة المياه وأدت إلى «تعطيل كفاءتها» وأنها السبب فيما حدث.. وأنهم تواصلوا مع مسئولى وزارة الرى لحل المشكلة.
طبعًا.. أفسد من أصدر هذا البيان كل ما قام به المحافظ من تحركات طيبة.. لأن العقل يقول إن هذه الطحالب إذا ما كانت قد أفسدت ماكينات «المحطة».. فإن كل سكان مناطق الجيزة سيتضررون.. وأولهم سكان مبنى المحافظة.. يعنى بالبلدى هى الطحالب دى مش فى بالها غير سكان فيصل والهرم وبولاق الدكرور والعمرانية؟.. يعنى الطحالب دى «عارفة سكان المهندسين والدقى ونادى الصيد»، وقررت ألا تقطع المياه عنهم دونًا عن سكان باقى المحافظة؟.
التصريح قد يكون بعضه صحيحًا لكنه غير دقيق.. ومتعجل.. وما يعانيه أهلنا فى تلك المناطق يعود إلى بعض القيادات المتقاعسة أولًا.. لأنها لا تفعل ما فعله المحافظ.. لا تذهب إلى الناس.. لا تصدقهم.
ما علينا.. أنتظر تصريحًا واضحًا من وزارة الرى، فعلماؤها ومسئولوها قادرون على معرفة «سبب المشكلة» وكيف يمكن أن نحلها.
هذا مجرد نموذج.. لمنطقة فى مصر.. لا يعنى قطعًا أن كل مصر كذلك.. بل هناك ٢٧ محطة مياه جديدة تحظى محافظة الجيزة وحدها باثنتين منها.. وتحظى محافظة البحر الأحمر بأكبر محطة تحلية فى الشرق الأوسط كله.. مليارات تم صرفها على هذه المحطات بطول البلاد وعرضها.. وآلاف المواطنين الرائعين يعملون بها ليحظى المواطن المصرى بكوب مياه نظيف.. ما قصدته فعلًا أننا بلد كبير فعلًا، وعلينا أن نكون كبارًا بحجم هذا البلد.