هنا ألبانيا من القاهرة.. مذكرات ملك مخلوع
بعد اندلاع الثورة فى إيران عام ١٩٧٩، استقبل السادات شاه إيران لاجئًا سياسيًا، بعد رفض العديد من الدول استقباله، خشية غضب المد الإسلامى المتصاعد فى إيران، وظن البعض أن هذه الواقعة أمر جديد فى حينه، فلماذا تستعدى مصر بذلك النظام الجديد فى إيران؟!
فى حقيقة الأمر لم تكن هذه الواقعة الأولى فى تاريخ مصر وربما ليست الأخيرة، إذ استقبلت مصر العديد من الحكام المخلوعين كلاجئين سياسيين عبر تاريخها الطويل، ولعل أشهر هذه الوقائع استقبال مصر ملك ألبانيا المخلوع «أحمد زوغو» فى عام ١٩٤٦، وترجع أهمية هذا الأمر للعديد من الأسباب، لعل فى مقدمتها علاقات الأصل العرقى التى تربط أسرة محمد على الحاكمة فى مصر آنذاك بألبانيا، ولعل ذلك كان السبب الرئيسى فى ترشيح الملك فؤاد لتولى عرش ألبانيا قبل توليه عرش مصر.
ومن دواعى أهمية استقبال ملك ألبانيا كلاجئ سياسى فى مصر، أن الملك «أحمد زوغو» قد سجل وقائع إقامته فى مصر فى مذكراتٍ خاصة عن هذه الفترة من عام ١٩٤٦ حتى عام ١٩٥٥، وقام مؤخرًا الدكتور محمد الأرناؤوط، العالم المتخصِص فى تاريخ العلاقات الألبانية العربية، بترجمة هذه المذكرات إلى العربية، وهى فى الحقيقة مذكرات ثرية من الناحية التاريخية.
لجأ «أحمد زوغو» إلى مصر فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، التى تركت آثارها بشدة على معظم دول العالم، ولم تنجُ ألبانيا من هذه التبعات، إذ اندلعت حرب أهلية مريرة فيها بين قوى اليمين واليسار، استمرت خلال الأعوام ١٩٤٣- ١٩٤٥، وانتهت بوصول الحزب الشيوعى إلى الحكم وإعلان الجمهورية فى مطلع عام ١٩٤٦.
وترتب على ذلك هروب الآلاف من الألبان المعارضين للحكم الشيوعى الجديد، وتشتُتهم حول العالم، واستقبلت مصر العديد من هؤلاء، وعلى رأسهم الملك «أحمد زوغو»، حيث لم تعترف مصر الملكية بالنظام الشيوعى الجديد، وأعلنت مصر أن «أحمد زوغو» هو الملك الشرعى لألبانيا، وتحولت سفارة ألبانيا فى مصر إلى مقر لحكومة المنفى، وأصبح من حقها إصدار وثائق سفر للألبان فى المنفى.
وتقدم المذكرات الكثير مما يوضح مدى حب «أحمد زوغو» وولعه بمصر، التى استضافته فى أحلك اللحظات، ولكن تضم المذكرات أيضًا صفحاتٍ مهمة حول علاقات ملك ألبانيا بملك مصر وحكام العالم العربى، وآراء «أحمد زوغو» حول تطورات الأحداث فى المنطقة آنذاك.
ولعل من النقاط المثيرة فى المذكرات تحذير «أحمد زوغو» للملوك والحكام العرب من الانجرار لحرب ١٩٤٨ ضد إسرائيل، لأن العرب غير مستعدين عسكريًا، وبالتالى ستحدث الهزيمة وخسارة الأراضى وتحول الفلسطينيين إلى لاجئين، كما حذر ملك ألبانيا من أن تطورات الحرب الباردة ليست فى صالح القضية العربية، كما وجه ملك ألبانيا تحذيرًا لقادة الغرب بأن الحرب ستؤدى إلى حالة من العداء بين العرب والغرب.
استمرت حكومة ألبانيا فى المنفى تعمل من القاهرة حتى بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، لكن الأمر سيتغير مع تقارب جمال عبدالناصر مع الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية، إذ ستعترف مصر بـ«جمهورية ألبانيا الشعبية»، ويتم إغلاق السفارة الملكية الألبانية فى القاهرة، وسحب الاعتراف بأحمد زوغو، لتنتهى بذلك صفحة مهمة فى تاريخ العلاقات الألبانية العربية، وغادر «أحمد زوغو» مصر واستقر بباريس حتى وفاته فى عام ١٩٦١ وُدفِن هناك.
على أى حال تمت إعادة الاعتبار إلى الملك «أحمد زوغو» بعد سقوط الشيوعية فى ألبانيا عام ١٩٩٢، حيث تم إطلاق اسمه على الشارع الرئيسى فى قلب تيرانا عاصمة ألبانيا، والأكثر من ذلك تم إعادة دفن رفاته بمراسم رسمية فى ألبانيا عام ٢٠١٢ لتتصالح ألبانيا بذلك مع تاريخها المعاصر.