حديث الإفك
جميعنا تابع مؤخرًا تلك الوثائق التى تم تسريبها من ١٣٥٠ عنصرًا من شباب الإخوان الموجودين حاليًا فى السجون المصرية لقضاء فترة عقوبتهم، إما لقيامهم بأعمال إرهابية استهدفت الأبرياء من الشعب المصرى ومن رجال الجيش والشرطة أو للتحريض على القيام بتلك العمليات أو لانضمامهم لجماعة إرهابية محظورة.. والمرسلة منهم إلى قيادات الجماعة وشيوخها، مطالبينهم بضرورة إيجاد حل عاجل لوضعهم داخل السجون والتصالح مع الدولة لإخراجهم منها.
واقع الحال يشير إلى أن تلك المبادرة ليست الأولى من نوعها منذ قيام ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، بل هى رقم ٣٧، أى أن هناك ٣٦ مبادرة تم إطلاقها فى السابق وصولًا إلى تلك الأخيرة.. حيث كانت المبادرة الأولى فى ٢٧٧٢٠١٣ والتى طرحها الإخوانى محمد سليم العوا، حيث تضمنت طلب الإفراج عن الإخوانى الراحل محمد مرسى وإعادته رئيسًا شرعيًا للبلاد ولكن منزوع الصلاحيات، بحيث يعطى جميع صلاحياته لحكومة مؤقتة تحدد موعدًا لانتخابات رئاسية مبكرة.. وبالطبع لم يتم النظر لتلك المبادرة لرفضها من جانب الدولة المصرية، الممثلة فى الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور وأيضًا من جانب جماعة الإخوان، اعتقادًا منهم أنهم عائدون لحكم البلاد نتيجة الأعمال الإرهابية التى كانت تتم فى هذا الوقت، وكذلك حالة الفوضى والارتباك التى كانت تعم البلاد، والتى كانت تمثل ضغطًا على الدولة المصرية سوف يجعلها فى النهاية ترضخ لعودتهم.
وتوالت بعد ذلك المبادرة تلو الأخرى، وصولًا لتلك التى طالب بها شباب الإخوان الموجودون فى السجون.
وقبل أن أتناول ما جاء فى تلك المبادرة تذكرت ما قام به الإخوانى حسن الهضيبى، مرشد الجماعة، عندما طالب عناصر الجماعة الموجودين فى السجون المصرية أثناء حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بكتابة خطابات تفيد بتوبتهم والاعتراف بخطئهم على انضمامهم للجماعة، وبالفعل أفرج عنهم عبدالناصر رغم تورطهم فى محاولة اغتياله، إلا أنهم حاولوا فى عام ١٩٦٤ الانقلاب مرة أخرى على الأوضاع فى البلاد بإيعاز من القيادى الإخوانى سيد قطب فتم القبض عليهم، وصدر قرار بحل الجماعة نهائيًا.. إلى أن قام الإخوانى عمر التلمسانى بإقناع الرئيس الراحل أنور السادات بالسماح للجماعة بممارسة نشاطها لمواجهة النشاط الشيوعى فى البلاد ووافق السادات على ذلك، إلى أن تم اغتياله فى ٦١٠١٩٨١ بمعرفة عناصر تلك الجماعة التى سمح لها بالعودة لممارسة نشاطها.
وتلك جميعها تعطى دلالات وإشارات واضحة بأن تلك الجماعة لا عهد ولا ضمير لها طالما أن ذلك يتعارض مع مصالحها. ونأتى إلى تلك التمثيلية الهزلية التى كان أبطالها هم شباب الإخوان القابعون فى السجون المصرية من طرف، والقيادى الإخوانى إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة من طرف آخر.. حيث قام هؤلاء بتسريب رسالة قيل إنها مرسلة لقيادات الجماعة لطرح مبادرة على الدولة المصرية للإفراج عنهم، متسائلين عن الدور الذى تمارسه هذه القيادات خارج السجون لإنهاء أزمتهم.. ويطالبونهم بعدم التردد فى أخذ خطوة للوراء تحفظ لهم ما تبقى من بقايا الجماعة وتحفظ عليهم القليل ممن تبقى من شبابهم، وأيضًا للحفاظ على أعمارهم ومستقبلهم وحاضرهم.. وأنهم لن يتضجروا ولن يتذمروا من فكرة أخذ خطوة للوراء، بل إن التاريخ سوف يذكر لهم أنهم حافظوا على أفرادهم وكوادرهم، وأن ذلك أفضل من أن يذكرهم التاريخ بأنهم تمادوا فى عناد الدولة بلا رؤية ولا خطة تدعمهم خلال المستقبل القريب.
وهنا قامت قناة الجزيرة بمداخلة ساذجة أعقبتها مداخلة أخرى من الإخوانى الهارب حمزة زوبع على قناة «مكملين» التى تبث من تركيا مع نائب المرشد العام للجماعة، الإخوانى إبراهيم منير، يحاولون من خلالها إقناعه بالتدخل لصالح هؤلاء الشباب وهو يتنصل من ذلك، مدعيًا أن قيادات الجماعة ليست مسئولة عنهم، وأن لديهم مطلق الحرية فى الخروج منها والانفصال عنها، وبالتالى فإنهم لن يتم اعتبارهم من الجماعة، وللسلطات المصرية القرار فى الإفراج عنهم حينئذ من عدمه.
وفى قراءة متأنية للمشهد ككل وصلنا بالفعل إلى قناعة كاملة بأن جماعة الإخوان تمر حاليًا بمرحلة هى الأصعب والأدق فى تاريخها، حيث أصبح من الصعب تجنيد عناصر جديدة لهم بعد فقدان مصداقيتهم لدى معظم الشباب، وبالتالى فهناك حاجة ضرورية إلى تلك الكوادر الموجودة فى السجون، خاصة المدربين منهم على أعمال العنف والتظاهرات. ومن هنا فقد جاءت تلك المبادرة وهذه المسرحية الساذجة التى شارك فيها للأسف بعض الإعلاميين، إما لقلة خبرتهم بالإخوان، أو لارتباط البعض منهم ببعض كوادرهم بشكل غير معلن. من ناحية أخرى فإن قراءة بعض بنود الرسالة تشير إلى أن اتهامات هؤلاء الشباب لقياداتهم تأتى فى إطار التقاعس عما يسمونه العمل الجاد لتحقيق أهداف الجماعة وأن هؤلاء القيادات فضلوا رغد العيش فى الدول التى تؤويهم واستولوا لأنفسهم على الأموال التى كان يجب أن تخصص لهم لتحقيق أهداف الجماعة.. فيما يشير إلى أن هؤلاء الشباب ووفق موقفهم المعلن حتى بعد أن وقعوا فى يد العدالة لا يقرون بخطأ الأفكار الهدامة التى نشأت عليها الجماعة، ولا يدينون أو ينتقدون العمليات الإرهابية التى تم تكليفهم بها، أو تلك التى قام بها قياداتهم فى السابق، ولم تبدر منهم أى إشارة تعرب عن حزنهم على سقوط ضحايا مدنيين أبرياء، وإنما هم أكثر تمسكًا بشعارات وأهداف وخطط الجماعة التى أقسموا على يمين الولاء والسمع والطاعة لتنفيذها، ومن هذا المنطلق وجدنا أن هناك بعض الكوادر الشبابية للإخوان قد لجأوا إلى بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى مثل داعش وجبهة النصرة والقاعدة وغيرها لتحقيق تلك الأهداف السابق الإشارة إليها، طالما أن التنظيم والقيادات ليست لديهم القدرة حاليًا على تمويلهم خاصة بعد استيلاء القيادات التاريخية للجماعة على الأموال الضخمة المتدفقة عليهم من الخارج للقيام بعمليات إرهابية ضد مصالح الدولة.
إن أى حديث عن المصالحة خاصة بهذا الشكل الهزلى يفتقد الجدية والموضوعية تمامًا.. فلا يمكن لشباب الإخوان أن يتراجعوا عن عقيدتهم ومعتقداتهم ولا يمكن لقيادات الجماعة أن يتخلوا عنهم وهم فى أشد الحاجة إليهم لاستمرار أعمالهم العدائية والإرهابية الكفيلة بأن تعلن أن الجماعة ما زالت قائمة وقادرة على إحداث التوتر والقلق والترهيب الذى قد يدفع الشعب نفسه، من وجهة نظرهم، للضغط على النظام لتحقيق المصالحة مع الجماعة بأقل قدر ممكن من التنازلات التى يقدمها هؤلاء القيادات.. كما أننى لا أستبعد أن يقوم بعض منظمات حقوق الإنسان المشبوهة بتبنى تلك المبادرة من منطلق الحفاظ على مستقبل هؤلاء الشباب الذين أعلنوا رغبتهم فى الخروج من السجون من خلال التفاوض بين قيادات الجماعة والدولة المصرية. وهنا أشير إلى استخدام تعبير «أعلنوا رغبتهم» «ولم يعلنوا توبتهم».
إن مواجهة جماعة الإخوان يجب ألا تكون مقصورة على الأجهزة الأمنية فى الجيش والشرطة فقط، بل لا بد أن يشارك المجتمع بأفراده وتنظيماته المدنية فى درء ممكنات الخطر من منابعه الفكرية والاجتماعية.. وإلى أن يحدث ذلك فإننا يجب أن نتأكد دائمًا أن أى حديث عن المصالحة بين جماعة الإخوان الإرهابية والدولة المصرية هو «حديث الإفك».
وتحيا مصر..