الباشا بين السينما والسياسة
هاتفتنى محررة شابة وأخبرتنى بأنها تقوم بإعداد تحقيق صحفى عن إلغاء الألقاب والرُتب بمناسبة ذكرى ثورة ٢٣ يوليو، وسألتنى: هل كان يتم شراء لقب الباشا بالرشاوى إلى الملك؟ أجبتها بهدوء: ليست هناك دلائل ملموسة على ذلك. ردت المحررة: «كيف يا دكتور إحنا شفنا ذلك واضحًا فى أفلام السينما؟!» قلت لها: «نعم ظهر ذلك فى بعض الأفلام التى خرجت بعد ثورة يوليو، التى قدمت صورة راديكالية عما قبل الثورة».
قالت لى المحررة الشابة: «يعنى الكلام ده صح ولا مش صح؟»، وهنا وجدتنى أمام معضلة فى الذهنية المصرية، يا أبيض يا أسود.. صح ولا غلط؟ قلت لها: «ليس هناك دليل ملموس على ذلك، وليس كل باشا اشترى لقبه بالمال، وأيضًا ليس كل باشا شخصية وطنية»، وبنبرة هادئة ومازحة قلت لها: «فلنحتكم إلى لغة السينما، لقد عشنا فى زمن سينما الأبيض والأسود، ولكننا اكتشفنا بعد ذلك أن هذا الأبيض والأسود يغلب عليه اللون الرمادى ثم كان الاكتشاف الأكبر مع السينما بالألوان، التى لم تكن مجرد تغير فى لون الشاشة وتقنية العرض، ولكن تطورًا كبيرًا فى تاريخ السينما وموضوعاتها، وأيضًا تلقى المشاهد نفسه».
أنهت المحررة الشابة مكالمتها، ولا أدرى هل اقتنعت بكلامى أم لم تتقبله، وأحسست بأنها كانت تريد إجابة محددة: نعم أم لا، وبأنها كانت تميل إلى وصم الباشوية والباشوات بالرشوة والفساد نتيجة التأثر الشديد ببعض الأفلام التى صدَّرت هذه الصورة بعد ثورة ٢٣ يوليو. ولكن الذى شد انتباهى هو راديكالية منطق التفكير فى الذهنية المصرية، التى تميل أكثر إلى الإدانة وتبعد كثيرًا عن المناقشة الهادئة للأمور وللظواهر الاجتماعية، وأيضًا كيف صاغت السينما العقل الجمعى المصرى، بل كيف أصبحت مصدرًا للمعرفة التاريخية فى ظل وسط لا يهتم كثيرًا بالكتب التاريخية، وفضائيات تجرى وراء النتائج.
ودفعتنى هذه المكالمة السريعة إلى محاولة بحث الأمر بهدوء، ورصد وتحليل صورة الباشا بين السينما والسياسة، ومحاولة معالجة الصور النمطية التى تستقر فى أذهاننا أحيانًا، وتصبح أشبه بالعقائد التى يصعب تغييرها بل أحيانًا مجرد نقدها.
واخترت أن تكون نقطة البداية هى تعريف مصطلح «الباشا» والتطور التاريخى له، ووجدتنى أعود إلى الكتاب المهم «معجم الدولة العثمانية» للعلامة الكبير، رحمة الله عليه، حسين مجيب المصرى، أحد أهم المتخصصين فى التاريخ والأدبين الفارسى والتركى، ومن البداية يوضح «المصرى» وجهات النظر المختلفة حول الأصل اللغوى والتطور التاريخى لمصطلح الباشا، إذ يرى البعض أن أصل مصطلح الباشا يعود إلى اللغة الفارسية وأنها من «بادشاه» بمعنى «ملك»، ويرى البعض الآخر أن أصلها تركى، إذ جرت عادة الأتراك الأوغوز فى أواسط آسيا على إطلاق هذا اللقب على أول من يولد لهم، كما أُطلِق على الأخ الأكبر، كما يرى البعض الآخر أن هذا اللقب كان معروفًا فى إمارات الأناضول حتى قبل العهد العثمانى، والمثير أنه كان يُطلق على الرجال والنساء، والأكثر إثارة وتطرفًا أن هذا اللقب تسرب إلى الأدب التركى لا سيما الشعر الصوفى فى القرن الرابع عشر، إذ خاطب الشاعر الصوفى سلطان بن جلال الدين الرومى الذات الإلهية بقوله «اى باشا» أى «يا باشا».
ولكن المشهور أن هذا اللقب أصبح يُمنح من جانب الدولة العثمانية إلى أصحاب المناصب العالية من مدنيين وعسكريين، كما أصبح لمصر حق منح هذا اللقب لكبار القوم، سواء أثناء تبعية مصر للدولة العثمانية أو حتى بعد إعلان المملكة المصرية فى عام ١٩٢٢، وسقوط الدولة العثمانية وقيام تركيا الحديثة.