مصر والدائرة الإسلامية «1»
تطمح هذه السلسلة من المقالات إلى معالجة بعض النقاط المهمة المتعلقة بمكانة مصر فى العالم الإسلامى، وذلك تطبيقًا على حالة مسلمى يوغوسلافيا تحت الحكم الشيوعى، وتحاول هذه المقالات، بشكلٍ خاص، استقصاء أهمية الدور الإسلامى فى السياسة الخارجية لمصر فى العهدين الملكى والثورى «ما بعد يوليو 1952» وطبيعة هذا الدور، والاختلافات حول تطبيقه بين العهدين.
بدأ الاهتمام المصرى مبكرًا- سواء على المستويين الرسمى أو الشعبى- بأوضاع مسلمى البوسنة والهرسك، وحتى قبل أن تنتهى الحرب العالمية الثانية، جاء هذا الاهتمام نتيجة اتصالات زعماء مسلمى البوسنة والهرسك المقيمين فى الخارج بوزارة الخارجية المصرية، إذ تلقت الوزارة فى منتصف عام 1944 العديد من الرسائل من جانب ممثلى مسلمى يوغوسلافيا فى إسطنبول، ومن بعض رؤساء الجمعيات الدينية وأعضاء المجلس الإسلامى فى الخارج، وشرح هؤلاء الزعماء للوزارة ما تعرض له مسلمو يوغوسلافيا من هجمات من جانب قوات التحرير اليوغوسلافية فى خضم أحداث الحرب العالمية الثانية. وقدر هؤلاء الزعماء عدد من راح ضحية لهذه الهجمات من المسلمين بأكثر من مائتى ألف قتيل، فضلًا عن مدى التخريب الشامل الذى تعرضت له المناطق الإسلامية فى يوغوسلافيا. كما لفت هؤلاء أنظار الخارجية المصرية إلى الأحوال المتردية فى مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، حيث يوجد أكثر من 30 ألف طفل مسلم يعانون من أوضاع سوء المعيشة. وحث هؤلاء الزعماء الخارجية المصرية على التدخل على الصعيد الدبلوماسى، لرفع العسف عن مسلمى يوغوسلافيا، انطلاقًا من مكانة مصر فى العالم الإسلامى.
من هنا قامت الخارجية المصرية، من خلال قنوات العمل الدبلوماسى، بالاتصال بممثلى دول الحلفاء المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية- بريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفيتى وأيضًا يوغوسلافيا- فى مصر، لإطلاعهم على مدى قلق الحكومة المصرية مما وصل إليها من أخبار عن حدوث اضطهادات لمسلمى يوغوسلافيا، ودعت الخارجية المصرية ممثلى هذه الدول إلى ضرورة التحرى عن حقيقة هذه الأوضاع، وفى حالة صحة هذا الأمر، فعلى هذه الدول أن تأخذ على عاتقها التدخل لوضع حد لمثل هذه التجاوزات.
ولم تكتفِ الخارجية فى هذا الشأن بالعمل من خلال القنوات الدبلوماسية، إنما اتجهت إلى الاتصال بجمعية الهلال الأحمر المصرى، لتتدخل لدى لجنة الصليب الأحمر الدولية، لتقصى أحوال مسلمى يوغوسلافيا. وبالفعل أرسلت لجنة الصليب الأحمر الدولية تقريرًا إلى جمعية الهلال الأحمر المصرى تؤكد فيه مدى سوء حالة مسلمى يوغوسلافيا، خاصة أهالى مقاطعة سراييفو، ومدى حاجتهم إلى إعانات عاجلة من أغذية وأدوية.
ومن ناحية أخرى، وتعبيرًا عن مدى اهتمام الحكومة المصرية بهذا الموضوع، قامت الخارجية المصرية بعرض الموضوع برمته على مجلس الوزراء، فى اجتماعه المنعقد فى 28 يونيو 1944، وبعد تباحث الأمر، وبناءً على حساسية الموضوع لدى الرأى العام المصرى، أصدر مجلس الوزراء المصرى بيانًا إلى الرأى العام موضحًا فيه كل تفاصيل الأمر، والجهود السابقة للخارجية المصرية فى هذا الشأن، واهتم المجلس اهتمامًا ملحوظًا بالتخفيف من أحوال سوء المعيشة التى يعانيها مسلمو يوغوسلافيا، من هنا وافق المجلس على التبرع بمبلغ عشرين ألف جنيه، لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة لهم، وكان من الممكن أن يُوقع هذا الإجراء الحكومة المصرية فى أزمة دبلوماسية مع يوغوسلافيا، على أساس أن هذا الأمر يعتبر تدخلًا فى الشئون الداخلية لها، لذا عملت الحكومة المصرية على تقديم هذه المساعدات عن طريق منظمات الإعانة الدولية، إذ قامت جمعية الهلال الأحمر المصرى بإرسال هذه المساعدات إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتقوم بدورها بتولى هذا الأمر.
وفى الوقت نفسه حرصت الحكومة على إرضاء الرأى العام المصرى المشبع بالفكرة الإسلامية، دون أن يُؤخذ عليها- دوليًا- فى بياناتها التى تصدرها أى شبهة للتعصب للإسلام، أو التدخل لدوافع دينية فى الشئون الداخلية ليوغوسلافيا. من هنا كان حرص الحكومة المصرية على حل هذه المعادلة الصعبة، من خلال التأكيد فى بيانها الخاص بأوضاع مسلمى يوغوسلافيا بأنها تتدخل فى هذا الأمر «لدواعى الإنسانية والأخوة الإسلامية». وهكذا قدمت الحكومة مصطلح «إنسانية»، الذى توافقت عليه الحكومات الغربية، وله صداه لدى الرأى العام العالمى، ثم تلت ذلك بمصطلح «الأخوة الإسلامية»، وهو المصطلح الذى تخاطب من خلاله الرأى العام المصرى الشغوف إلى حث الحكومة المصرية على اتخاذ خطوات إيجابية فى هذا الشأن.
وعلى المستوى الشعبى سارعت جمعية الهلال الأحمر المصرى، وهى جمعية أهلية، إلى إصدار نداء إلى الشعب المصرى موضحةً فيه مدى المحنة الشديدة التى يتعرض لها مسلمو يوغوسلافيا، وتبرعت الجمعية لهم بمبلغ خمسة آلاف جنيه، كما قادت الجمعية حملة تبرعات شعبية، ودعت الهيئات والأفراد إلى التقدم للتبرع لصالح مسلمى يوغوسلافيا من خلال الجمعية، وأصدرت إيصالات خاصة بذلك. ومن الملاحظ أن جمعية الهلال الأحمر قد سارت على أسلوب الحكومة المصرية نفسه فى الدقة فى اختيار الألفاظ، نظرًا لحساسية الأمر، إذ حرصت الجمعية فى بداية النداء الذى أصدرته على ذكر لفظ «مسلمى» يوغوسلافيا، ولكنها فى حثها المصريين على التبرع استخدمت عبارات أكثر عمومية، فهى تدعو المصريين إلى التبرع «وفاءً لواجبهم الإنسانى السامى، وتذكرًا وتقديرًا لأنعم الله عليهم، إذ وقاهم شر كثير من المصائب التى حلت فى الأرض وتناولت إخوانهم فى البشرية».