محمد العسيرى يكتب: تكية نجيب محفوظ
فى كل مرة أترك فيها مكتبى وأخرج من حدود الحيطان الضيقة إلى براح الشوارع، خاصة فى المحافظات أو أحياء القاهرة الشعبية، أشعر بأن بلدنا كبير جدًا.. وعظيم جدًا.. ويحتاج منّا إلى محبة تساوى هذا الحجم الكبير.
هذا الأسبوع وبدعوة كريمة من وزارة الثقافة وجدت نفسى فى حى الجمالية.. كنت قد قرأت كثيرًا من تجليات جمال الغيطانى عن ذلك الحى.. وذكريات كثيرين من روادنا.. أبرزهم يحيى حقى ونجيب محفوظ.. وبمجرد أن خطت قدماى إلى جوار الوكالة.. التى عرفت أنها «وكالة أبوالدهب».. تذكرت ذلك العالم السحرى الذى فاضت به كتب التاريخ والسيرة عن ذلك القائد الداهية ربيب محمد على بك الكبير. وطالعتنى صورة «بهاء ثروت» وهو يلعب دوره فى رائعة صديقى عبدالرحيم كمال «شيخ العرب همام».
سيرة أبوالدهب بقدر ما تجبرك على الإعجاب به.. تدفعك دفعًا إلى احتقاره أيضًا.. فهو داهية صحيح.. لكنه لعب على كل حبال الدنيا وعلّم الأبالسة أصول المكر والخيانة.. أبوالدهب مثل جدوده المماليك لم يكن مصريًا قط.. لكن الحى.. والوكالة والتكية التى سموها باسمه مصرية خالصة قطعًا.
هناك كنا فى جولة مع المبدعة إيناس عبدالدايم.. لنرى كيف حوّل الشباب المصرى.. شباب وزارة الثقافة.. تلك التكية إلى مزار عالمى يجمع تراث نجيب محفوظ.. ومقتنياته.. صوره.. كتبه.. ذكرياته.. وأيامنا فى مكان واحد يشبه منمنات ذلك الرجل الذى جاءته الدنيا تحبو حيث يجلس وسط حرافيشه.
ولما كانت سعادتى وأنا أجلس فى «حرم» الرجل.. فى مقهى شعبى مصنوع بقبابه ليحاكى «مجلس» عمنا نجيب، وقد سماه أهل الثقافة.. مقهى الحرافيش.. ولم يكن ينقصنى سوى أن أستمع إلى مقدمة ذلك المسلسل الإذاعى التى كتبها عمنا صلاح جاهين وغناها سيد مكاوى عن سيرة هؤلاء الذين أحبهم نجيب فأحبوه.. ومنحوه سره وسرنا.
وأولئك الحرافيش هم حراس «التكية».. يحوطونها من كل جانب.. ولم أر مثل غيرى فى تلك السوق.. بخضارها وفاكهتها ما يعيب المكان أو يمثل عائقًا فى حركة زواره المنتظرة، فهو جزء من نسق جمالى حفلت به أعمال نجيب محفوظ.
المهم.. إننا بصدد حدث تاريخى.. ربما يتم الإعلان عنه قريبًا.. خاصة أن موعد الافتتاح لم يتحدد بشكل نهائى بعد.. وربما يكون فى الثلاثين من يونيو الحالى احتفاءً واحتفالًا بأعياد الثورة.
هذا الحدث يحتاج إلى نظرة مختلفة من وزارة السياحة تحديدًا.. والهيئة العامة للاستعلامات.. وكل ما له صلة بالخارج فى الدولة المصرية.. نحن نعرف نجيب محفوظ نعم.. لكن العالم الخارجى يعرفه أكثر منّا.. وهناك دول كثيرة لا تملك ربع نجيب محفوظ.. ولا عُشر تلك التحفة المعمارية التى صارت متحفًا يحمل اسمه ويذهب إليها آلاف الزوار يوميًا يدفعون الكثير لمجرد الحصول على صورة.. نحن فى حاجة لآلية مختلفة لتسويق ما نملك من كنوز.. قطعًا سيكون أحدها متحف نجيب محفوظ.
احتفائى بهذا الحدث لا يعود لأننا نحتفى ونحتفل بأديب مصرى.. وهم كثيرون.. ولكن لأننى أشعر بأننا أخيرًا على الوجهة الصحيحة.. نجيب محفوظ الذى حاول الإرهاب.. فى يوم ما.. اغتياله بسكين جاهلة باردة.. قاوم تلك السكين.. وعاش.. جسدًا وأدبًا.. انتصرت روح نجيب محفوظ المبدعة.. على تلك الروح الجاهلة التى تحاربنا فى سيناء والسلوم والشوارع الخلفية.. وستظل تحارب كل ما هو إنسانى وحضارى ومتحضر.. ومصر التى تقاوم وتدحر ذلك الإرهاب على الأرض.. تدحره الآن فى عقول صانعيه بأن تحتفى بمن قاوم إبداعًا وفكرًا.. وهو أمر يدعو أدباءنا ومثقفينا لأن يكونوا، كما كانوا دومًا، رأس حربة فى تلك الحرب.
هؤلاء جميعًا.. مدعوون للوقوف صفًا واحدًا.. مع قيادات وزارة الثقافة.. وأولئك العمال الذين يقفون على السقالات.. نحتاج إلى ترويج بشكل مختلف لهذا المتحف.. واسم نجيب محفوظ يكفى لأن يلتف حوله الكثيرون.. نحتاج إلى كل ما له صلة بالعم نجيب ليكون فى ذلك المتحف.
المصورون الصحفيون الذين عاصروه لديهم آلاف الصور.. نحتاجها.. نحتاج وجودها حية فى ذلك المتحف.. وقد علمت من النائب الروائى الكبير يوسف القعيد أن نجيب محفوظ لم يكن يرفض طلبًا لأى مصور، وله عشرات الآلاف من الصور التى تسجل كل فترات حياته.. نحتاج إلى أفلامه ليشاهدها أبناء حى الجمالية وكل الأحياء المجاورة.. ولتكن عروضًا أسبوعية يذهب إليها الجميع.. نحتاج إلى أغلفة كتبه.. وقد شارك فى صنعها مبدعون كبار أذكر منهم جمال قطب الذى رسم أغلفة «البدايات» جميعها.. وأعتقد أن نجلته د. هبة قطب لن تتأخر فى منح المتحف أصول تلك الأغلفة أو نسخًا منها.
هذا المتحف الصغير الذى يخترق الحارات الضيقة فى حى الجمالية.. من الممكن أن يتحول إلى «حدث يومى» كبير يأتى إليه عشاق الأدب والفكر والفن من كل أرجاء العالم وفى زيارات «مخصوصة».. تلك الأجواء.. التى كتب عنها عم نجيب فى ثلاثيته أو أعماله التى تحتفى بالحارة المصرية.. يمكنها أن تجذب الملايين من العالم كله ممن عاشوها سحرًا بين دفتى كتاب ويهمهم أن يشاهدوها على الطبيعة.
متحف نجيب محفوظ «رمز» لأمة.. مبدعة.. مقاومة.. كبيرة بقدر إبداع وعطاء ونقاء معدن أبنائها.. هى فرصة طيبة ليعرف العالم.. ونحن أيضًا.. أننا أصحاب وأبناء بلد عظيم بجد.