أبعاد الدور المصرى فى القارة
منذ أن تولت مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى وهى لا تألو جهدًا فى أى مجال من المجالات التى تفيد دول القارة الإفريقية على كل الأصعدة، وذلك إيمانًا بقناعة الرئيس عبدالفتاح السيسى، وقناعتنا معه، بما لهذه القارة الأم من أهمية استراتيجية فى العديد من المجالات.
فى هذا الإطار، فقد بدأ اهتمام القيادة السياسية بشباب القارة عندما اجتمع معهم الرئيس فى أسوان، وأعلنها محافظة لهم وللقارة، ثم بدأ جولات مكوكية فى العديد من الدول، وبعضها لم يقم أى رئيس مصرى سابق بزيارتها من قبل.. وبعد ذلك احتضنت مدينة شرم الشيخ، منذ عدة أيام، المنتدى الإفريقى الأول لمكافحة الفساد، بمشاركة 51 دولة إفريقية، لوضع آلية موحدة للتعاون ونقل الخبرة المصرية فى هذا المجال إلى دول القارة للارتقاء بشأنها اقتصاديًا وأمنيًا.
وبعد ذلك، جاء «ملتقى بناة مصر» الذى ضم العديد من الدول الإفريقية ورجال الأعمال بها للوقوف على فرص الاستثمار العقارى فى معظم دول القارة.. واليوم نحن على أعتاب بطولة كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم التى ستستضيفها مصر يوم الجمعة المقبل، وتستمر لمدة شهر، بمشاركة 24 دولة إفريقية تضم مجموعة من أمهر المحترفين فى مجال اللعبة، ولا شك أن هناك أعدادًا كبيرة من مشجعى تلك الدول سوف يحضرون للبلاد خلال تلك الفترة، مما سيترتب عليه احتكاك مباشر بين الجماهير المصرية والجماهير الإفريقية، سوف يكون له مردود إيجابى فى توطيد العلاقات بين دول القارة من خلال شعوبها، وليس فقط قياداتها السياسية.
وإذا عُدنا قليلًا إلى الوقوف على الأسباب التى دفعت القيادة السياسية للاهتمام بملف مكافحة الفساد على مستوى القارة الإفريقية، لوجدنا أن هناك أبعادًا كثيرة تجعل من رعاية مصر هذا المنتدى ضرورة كبرى، خاصة فيما يتعلق بالجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية.
فنحن نعلم أن سبب انهيار أى دولة يأتى إذا توافرت ثلاثة محاور أساسية، وهى: الفقر والجهل والمرض، وقد كان معظم دول القارة يعانى تلك المحاور مجتمعة أو جزءًا منها، وبطبيعة الحال فإن الفقر والجهل سيكونان مبررين للقيام بأعمال غير مشروعة، كالاتجار فى المخدرات أو السلاح وغسل الأموال، أو الاتجار فى الأعضاء البشرية، وتأتى بعد ذلك محاولات الهجرة غير الشرعية التى أصبحت تؤرق معظم دول العالم الغربى، وأصبحت تسىء إلى سمعة معظم دول القارة.
ووصل الأمر إلى القيام بأعمال قرصنة بحرية كانت تتم فى البحر الأحمر واستمرت لفترة غير قصيرة، إلا أنه تم القضاء عليها نتيجة تضافر الجهود الدولية التى تأثرت تجارتها ورحلاتها التى تمر بالبحر الأحمر، ثم جاءت التنظيمات الإرهابية المختلفة، وعلى رأسها تنظيما داعش وبوكو حرام ليضما بين صفوفهما أعدادًا كبيرة من عناصر الدول الإفريقية، كوسيلة لتحقيق أى موارد للدخل حتى ولو كان ذلك على حساب الأبرياء من أبناء الشعوب التى تتعرض للإرهاب، ولا شك أن مشكلة الفساد المتوارث فى القارة تُعد أحد الأسباب الرئيسية لتنامى تلك الأبعاد والأخطار الأمنية.
من ناحية أخرى، تشير التقارير الدولية إلى أن خسائر القارة جراء الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة تصل إلى نحو 50 مليار دولار سنويًا، بما يؤثر بالسلب فى إيرادات الموازنات العامة لدولها، وعلى الكفاءة الاقتصادية وبيئة الاستثمار، ويدفع نحو زيادة الاقتصاد غير الرسمى على حساب الاقتصاد الرسمى، وبالتالى انخفاض معدلات النمو وزيادة معدلات الفقر والمرض، وتدهور الأوضاع الاقتصادية بصفة عامة، رغم أن القارة الإفريقية تمتلك ما يقارب من 80% من احتياجات دول العالم من الغذاء والمعادن والبترول.
لذا من الواجب أن نتساءل عن كيفية وصول تلك القارة بكل ما فيها من ثروات وخيرات إلى درجة أقل مما يجب أن تكون به، رغم أن هناك دولًا أخرى أقل منها بكثير قد وصلت إلى مراحل اقتصادية متطورة وغير مسبوقة من زيادة الدخل القومى، وتحسين الأوضاع المعيشية لمواطنيها، بل إنها وصلت لمصاف الدول الكبرى فى الاقتصاديات العالمية، وأبرزها الصين واليابان والبرازيل.
وعلى الصعيد السياسى أيضًا، فغالبًا ما نرى الصوت الإفريقى هو الأقل أخذًا به فى المحافل الدولية، رغم أن جميع دول القارة تقريبًا ممثلة فى المنظمات العالمية كمنظمة الأمم المتحدة واليونسيف واليونسكو وغيرها.. ولعل هذا ما جعلها مطمعًا للعديد من الدول الأجنبية والإقليمية لكى تتوغل فى أراضيها وتشارك فى صنع سياساتها الخارجية وأحيانًا الداخلية.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك تلك العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية المتنامية لدولة إسرائيل مع معظم دول القارة السمراء، الأمر الذى يجعلها تحصد أصوات تلك الدول فى المحافل الدولية ناهيك عن التدخل والتأثير فى علاقاتها مع الدول الأخرى، حتى ولو كانت من داخل القارة، وهو ما شاهدناه فى التدخل الإسرائيلى لصالح إثيوبيا بشأن استكمال بناء سد النهضة رغم ما قد يترتب على ذلك من تداعيات سلبية على كل من السودان ومصر، وكذلك بدأنا نشاهد مؤخرًا ذلك التدخل التركى المتلاحق لدى العديد من دول القارة، لاستغلال مناخ الاستثمار بها والذى سينعكس بشكل مؤكد على العلاقات السياسية لتلك الدول مع الدول الأخرى، خاصة إذا تعارضت المصالح بينهما.
والواقع أن مصر بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى قد تنبهت لتلك المحاور والمخاطر التى قد تحدث إذا سيطرت تلك الدول التى تُضمر الشر لبلادنا على معظم دول القارة، حيث بدأ بالفعل فى أخذ تلك الخطوات المتسارعة والناجحة لإعادة القارة الإفريقية إلى حضن الدولة المصرية أو العكس.
ويبقى هنا ضرورة العمل على بعض المحاور الأخرى لإحداث ذلك التقارب المصرى- الإفريقى المنشود بجوار الجهود الأمنية والاقتصادية والسياسية التى تبذلها مصر لرفع شأن القارة بين باقى قارات العالم المختلفة، ومن هذا المنطلق فإن نجاح مصر فى تنظيم تلك البطولة الرياضية الإفريقية لكرة القدم والتى تُعد الرياضة الشعبية الأولى فى معظم دول القارة تنظيميًا وجماهيريًا واستغلال هذا الحدث سياحيًا وإعلاميًا سيكون له مردود إيجابى كبير على دعم الدور الذى تقوم به القيادة السياسية على مستوى القارة.
كما أنه ينبغى العمل على الانتشار الثقافى والتوعوى والدينى داخل الدول المختلفة بالقارة السمراء، واحتضان الكوادر الشبابية والثقافية وغيرها، وتنمية أفكارهم وثقافتهم من خلال الأكاديمية الوطنية للتدريب، مع زيادة أعداد المنح الدراسية فى الجامعات المصرية المختلفة وأكاديمية الشرطة والكليات العسكرية، وتوعية الشعب المصرى بأهمية القارة بالنسبة لنا على كل الأصعدة، وتشجيع الاستثمارات المصرية فى دولها المختلفة، خاصة فيما يتعلق بالزراعة والتعدين والإسراع فى الانتهاء من مشروعات ربط مصر بدول القارة، مثل خطوط السكك الحديدية والملاحة النهرية وخطوط الطيران التجارية، وتدشين منصة قارية تتضمن نقاط اتصال محددة لمتابعة تنفيذ كل الاتفاقيات المبرمة بين دول القارة.
إنها مسئولية كبيرة أخرى تقع على عاتق الدولة المصرية.. ولكن هذا هو قدرها وتلك هى رسالتها منذ بداية التاريخ.. وها هى تستعيد دورها الرائد مرة أخرى فى تلك القارة الفتية.. ونتمنى أن يكون له المردود الإيجابى فى كل مناحى التعاون بيننا وبين دولها المختلفة.
وتحيا مصر.