مصر والسودان.. المصير والتحولات «1-2»
إنه نهر النيل، شريان الحياة فى المنطقة، أتذكر أنى نظرت إلى الخريطة وتخيلت أنى رفعت منها النيل، وتخيلت شكل المنطقة، صحراء جرداء هى امتداد للصحراء الكبرى.. هنا تأكدت من معنى الدولة المركزية، وكل النظريات الاقتصادية والسياسية حول «الدولة النهرية».
ربما يعتبر هذا مدخلًا جيدًا لفهم وتفهم طبيعة العلاقة بين مصر والسودان، فالنيل مسألة حياة أو موت بالنسبة للدولة النهرية «مصر»، وشريان حياة أيضًا بين دول حوض النيل.
من هنا يرصد العلّامة جمال حمدان فى «شخصية مصر» أهمية ما أطلق عليه «البُعد النيلى» على رأس الأبعاد الأربعة لشخصية مصر، إذ يعتبر هذا البُعد ليس مجرد صلات أو وشائج، وإنما مسألة حياة لمصر.. ولقد أدرك المصريون مبكرًا أهمية هذا البُعد، حيث كان الجنوب قرة عين من يحكم مصر، أتذكر اهتمام أساتذتنا فى علم المصريات بتوضيح أهمية الجنوب لمصر، وحملات الفرعون لمد السيادة جنوبًا، وتأمين منابع النيل.. وتأكيدًا لهذه العلاقة، وأنها علاقة تبادلية وليست مجرد علاقة تبعية، أوضح لنا أساتذتنا أن بعض الأسرات الفرعونية المتأخرة هى من أصول جنوبية، فالحضارة المصرية امتدت جنوبًا، وتشبّع بها أهل الجنوب إلى الحد الذى أصبح فى الإمكان أن يكون هناك فراعنة جنوبيون.
ومع دخول المسيحية إلى مصر، وتحول الأقباط «المصريين» إلى المسيحية، نشأت كنيسة الإسكندرية «الكرازة المرقسية»، التى أصبحت بحق كنيسة إفريقيا، وكان من الطبيعى أن تنتشر المسيحية من مصر إلى الجنوب عبر النيل، حتى وصلت إلى الحبشة «إثيوبيا».. ويحدثنا التاريخ كثيرًا عن ممالك النوبة المسيحية وآثارها، واستمرت هذه الممالك زمنًا طويلًا حتى بعد دخول الإسلام إلى مصر.. وتعتبر معاهدة «البقط» هى أول محاولة للتعايش بين مصر الإسلامية و«الجنوب المسيحى»، ومع مرور الزمن، ومع تسرب النفوذ المصرى الإسلامى السياسى والحضارى إلى الجنوب، ستتحول ممالك النوبة إلى الإسلام.
ولعل القارئ قد لاحظ أنى أستخدم مصطلح «الجنوب» للحديث عن المنطقة جنوب مصر، المعروفة الآن بالسودان، ولم أستخدم كلمة السودان بمفهومها السياسى الحالى. وهنا لا بُد أن أوضح أن الكيان السياسى الذى نعرفه الآن باسم السودان لم يكن تاريخيًا معروفًا، حيث كانت هذه المنطقة تنقسم إلى العديد من الممالك والكيانات السياسية المتعددة، أما مصطلح السودان فهو مصطلح معنوى إلى حد كبير، إذ يعنى «بلاد السود»، وهو مصطلح عربى أُطلق على إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب مصر، دون أى دلالة سياسية.. من هنا نجد فى كتب الجغرافيا العربية مصطلحات مثل بلاد السودان الشرقى وبلاد السودان الغربى، وهى مصطلحات جغرافية فضفاضة، لا تعبّر عن كيان سياسى محدد أو معين.
ومع وصول محمد على إلى حكم مصر يتم تأسيس الدولة الحديثة فى مصر، ويدرك محمد على حكمة التاريخ ومدى أهمية «البُعد النيلى»، من هنا تأتى توسعات محمد على فى الجنوب، الذى سيشهد تجميع فسيفساء سياسية متعددة فى كيان واحد، هو بدايات السودان الحديث، الذى سيرتبط مصيره بمصر ارتباطًا وثيقًا، فيما يعرف سياسيًا بـ«وحدة وادى النيل»، وشعبيًا: مصر والسودان «حتة واحدة».
هذا ما سنراه، ونرى تحولاته فى المقال المقبل.