السلطان عبدالحميد الثانى وقضية فلسطين
تعتبر حركة مراجعة ونقد التاريخ من أهم متطلبات محاولات التنوير فى عالمنا العربى المعاصر، ولقد نجحت أوروبا بامتياز فى هذا الاختبار، وقامت بحركة مراجعات لتاريخها، استطاعت من خلالها إلى حد كبير تجاوز الماضى والانتقال إلى المستقبل، هذا بينما يعيش عالمنا العربى، وربما العالم الإسلامى فى سلفية التاريخ، أسرى للماضى ومعاركه، إما مع أو ضد، وهى الظاهرة التى عُرفت بالاقتتال بسيوف من تاريخ.
من المعارك الشهيرة فى هذا المجال الموقف من الدولة العثمانية بشكل عام، إذ يصنع البعض تاريخًا مقدسًا لهذه الدولة، على أساس أنها آخر خلافة إسلامية، بينما يُصنفها البعض الآخر على أنها العصور الوسطى المظلمة، وهكذا ضاع التاريخ الحقيقى بين مَنْ وصفها بالجنة، ومَنْ وصفها بالنار.
ومن الأساطير التاريخية التى يتم الاقتتال عليها دومًا، ليس فقط بين المؤرخين وإنما بين التيارات السياسية والفكرية، أسطورة «السلطان عبدالحميد الثانى»، حيث ضاع التاريخ بين مَنْ يصفه بالسلطان المؤمن «الخليفة» صاحب دعوة الجامعة الإسلامية، وبين مَنْ يصفه بـ«السلطان الأحمر» نظرًا للدماء التى سُفِكَت فى عهده، وهكذا عودة من جديد إلى الخطيئة الكبرى فى الكتابة التاريخية، أسطورة الأبيض والأسود، «الحلو» أو «الوحِش» فى التعامل مع الشخصيات التاريخية.
من هنا تأتى أهمية الكتاب الجديد للدكتور قيس العزاوى، المؤرخ الكبير والدبلوماسى العراقى الشهير، المتخصص فى تاريخ الدولة العثمانية، إذ يخصص العزاوى كتابه الجديد لمعالجة التباسات الكتابات التاريخية العربية حول شخصية السلطان عبدالحميد الثانى، والإصلاحى العثمانى مدحت باشا، وهى محاولة جادة لإجراء مراجعة لفترة مهمة من تاريخ عالمنا العربى والإسلامى.
فى الحقيقة يصعب استعراض أو تلخيص هذا الكتاب المهم فى مقالة صغيرة، نظرًا لاحتواء الكتاب على العديد من النقاط الجديدة، ولعل موقف السلطان عبدالحميد من السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين من النقاط المثيرة والجديرة بالقراءة فى كتاب العزاوى، إذ يشير إلى أسطورة رددها البعض وتلقفتها بعض التيارات الإسلامية، تقول إن السلطان عبدالحميد وقف كالأسد ضد هجرة اليهود إلى فلسطين، وبالتالى كان من الضرورى على الاستعمار الغربى والصهيونية إسقاط السلطان عبدالحميد من أجل إقامة إسرائيل، وأنه لو بقى السلطان عبدالحميد فى الحكم ما ضاعت فلسطين.
يوضح العزاوى بجلاء أنه فى البداية رفض السلطان عبدالحميد السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين، لكنه سرعان ما اضطر بعد ذلك إلى الموافقة على السماح بها تحت ضغط الغرب وجماعات اللوبى الصهيونى، والسماح للدولة العثمانية بعقد قروض مالية، أو تحت ضغط ساسة أتراك قُدِمَت لهم هدايا.. وهكذا يرصد عدة زيارات سرية قام بها الزعيم الصهيونى «هرتزل» إلى إسطنبول للترويج لحملات هجرة اليهود إلى فلسطين، ونجاحه فى الحصول على موافقة عثمانية على ذلك الأمر، ويرصد قيس العزاوى ازدياد أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين فى عهد السلطان عبدالحميد الثانى.
كم نحتاج إلى مثل هذه الكتابات الجادة حتى نستطيع قراءة الماضى وتجاوزه إلى آفاق المستقبل.