دبلوماسية التنمية والحضارة
فى الوقت الذى انشغل فيه الرأى العام، بل وبعض المهتمين بالشأن المصرى، بنتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فوجئنا بتوجه الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى جمهورية الصين للمشاركة فى مؤتمر قمة منتدى «الحزام والطريق» لبحث سبل التعاون الثقافى والاقتصادى مع الدول المشاركة فى هذا المنتدى.
الواقع أن ذلك كان دافعًا لى لدراسة موضوع «طريق الحرير» ومدى أهميته، حيث إن كثيرًا من أبناء الوطن ليست لديهم معلومات كافية عنه، وهو الأمر الذى كان مثار تساؤل لهم، خاصة فى تلك الأيام التى تشهد عدة مناسبات دينية ووطنية كان من المتوقع أن يشارك فيها السيد الرئيس.
تعتبر الصين من الدول العظمى حاليًا التى يتصاعد نجمها سريعًا فى مختلف المجالات، خاصة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ويعتبر مشروع أو مبادرة «الحزام والطريق» من أحدث المشروعات العملاقة التى تتبناها الصين حاليًا، حيث تسعى إلى إحياء طريق الحرير القديم، والعمل على تحديثه لكى يشمل الطريقين البرى والبحرى، الذى يربط ٦٨ دولة بشبكات من الطرق البرية والسكك الحديدية وخطوط الملاحة البحرية، حيث كان يستخدم هذا الطريق قديمًا بدءًا من القرن الثانى قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر الميلادى، وكان طريقًا بريًا يمتد من عاصمة الصين فى ذلك الوقت إلى مناطق العالم القديم لنقل البضائع الصينية وأشهرها «الحرير»، فقد كانت أول دولة تزرع أشجار التوت وبالتالى تربية ديدان القز الذى ينتج الحرير، وكان ذلك سببًا فى تسميته طريق الحرير، وكان يمر عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى أوروبا، وهو سلسلة من الطرق المترابطة كانت تسلكها القوافل والسفن أيضًا عبر تركيا إلى البحر الأبيض المتوسط.
وهنا تظهر عبقرية الرئيس عبدالفتاح السيسى وتفكيره بشكل غير نمطى، وهو ما نسميه «التفكير خارج الصندوق»، حيث قام بدراسة كيفية استفادة مصر من تفعيل هذا المشروع مرة أخرى، خاصة فى ضوء ما تتمتع به البلاد من موقع استراتيجى متميز علاوة على ما تشهده من إنجازات غير مسبوقة فى العديد من المجالات التى تساعد على تشجيع الاستثمار بها حاليًا.. ناهيك عن العلاقات المتميزة التى تربط مصر بجميع الدول التى سوف يمر بها هذا الطريق الرابط بين شرق العالم وغربه من خلال وجود قناة السويس كأهم ممر مائى فى العالم، حيث من الممكن أن يترتب على ذلك وجود منطقة اقتصادية متكاملة حول محور قناة السويس، وهو ما تسعى القيادة السياسية إلى تحقيقه، حيث إن تلك المنطقة سوف تمثل- بإذن الله- مستقبل التجارة الدولية، وتعد مركزًا للتعاون الاقتصادى والتجارى بين مصر والصين والدول المشاركة فيه، والتى وصل عددها حاليًا إلى ما يقرب من ١٥٠ دولة.
كانت هذه هى الرؤية الرئيسية لمشاركة مصر فى المؤتمر الثانى لتلك المبادرة، وكانت لدعوة لمصر للمشاركة فيها شهادة نجاح لتجربة الإصلاح الاقتصادى رغم قسوتها وحجم الإنجازات والمشروعات الهائلة التى تحققت خلال السنوات الخمس الماضية، ودخول مصر فى مصاف الدول المستقرة أمنيًا وسياسيًا.
ورغم حداثة النموذج المصرى الذى يركز على إنشاء شبكة كبيرة من البنية الأساسية فى مختلف المجالات، خاصة فى مجال الطاقة والكهرباء والطرق والمدن الجديدة، إلا أنه يتشابه إلى حد كبير مع النموذج الصينى، وهو أيضًا ما جعل مصر مؤهلة لجذب الاستثمارات بعد سلسلة الإصلاحات الاقتصادية التى تحملها الشعب المصرى ثقة فى قيادته، التى أدت إلى استقرار سعر الصرف وتحسن تصنيف مصر الائتمانى واسترداد ثقة المؤسسات الاقتصادية العالمية.
من ناحية أخرى، فقد كانت القارة الإفريقية حاضرة وبقوة فى تلك المباحثات، حيث تناولت تلك المشروعات العملاقة فى مجال البنية التحتية مثل محور «القاهرة- كيب تاون»، ومشروع النقل النهرى، ومسار التنمية من بحيرة فكتوريا إلى البحر المتوسط وجميع تلك المشروعات، وغيرها تحتمها الأمانة والمصداقية التى يتمتع بها الرئيس لدى دول القارة الإفريقية، التى اختارته ليكون رئيسًا للاتحاد الإفريقى هذا العام.
وقد أسفرت تلك المباحثات بين الجانبين المصرى والصينى عن توقيع العديد من اتفاقيات التعاون بين وزارة الإنتاج الحربى وشركة فوتون المتخصصة فى صناعة السيارات الكهربائية، وكذلك فيما يتعلق بصناعة الزجاج، خاصة ذلك الذى يستعمل فى توليد الطاقة الشمسية.. بالإضافة إلى التنسيق مع كبريات الشركات المتخصصة فى مجال الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا المعلومات.
ولم يكتف السيد الرئيس بمباحثاته مع الجانب الصينى، بل كان حريصًا على لقاء الرئيس الروسى فلاديمير بوتين- وهو اللقاء العاشر بينهما- مما يشير إلى قوة العلاقة بين البلدين من ناحية، وبين الرئيسين على المستوى الشخصى من ناحية أخرى، وهو الأمر الذى انعكس على نتائج هذا اللقاء، خاصة فيما يتعلق بتفعيل العديد من المشروعات الاستراتيجية السابق الاتفاق عليها، وكذلك بعض المشروعات الاقتصادية وتطابق الرؤى السياسية بين البلدين فى القضايا المثارة على الساحة الدولية حاليًا.. ثم جاء لقاء الرئيس مع رئيس الوزراء الإيطالى، حيث أكد اهتمامه الشخصى بقضية الطالب الإيطالى ريجينى، وأيضًا بتنسيق الجهود بين الجانبين فيما يتعلق بمحاربة الهجرة غير الشرعية، وكذلك توحيد الرؤى حول الأوضاع الأمنية فى ليبيا، حيث أكد الطرفان ضرورة الحفاظ على وحدتها وسلامتها الإقليمية والمساهمة فى القضاء على الإرهاب بها.. ثم جاءت لقاءات الرئيس مع كل من الرئيسين البرتغالى والسويسرى، بالإضافة إلى لقائه مع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، وجميعها لقاءات تؤكد مدى الثقل الدولى والإقليمى الذى تحظى به مصر حاليًا، بفضل التوجهات والسياسات التى ينتهجها الرئيس فى هذا المجال، الذى يسعى منذ توليه المسئولية إلى إعادة هيكلة البنية الأساسية للاقتصاد المصرى وإطلاق أكبر وأشمل حركة تنمية فى ربوع البلاد.. وهو ما نسميه «دبلوماسية التنمية وصنع الحضارة الحديثة».
ها نحن اليوم نرى الرئيس يجوب العالم شرقًا وغربًا وجنوبًا لفتح آفاق التنمية والرخاء لمصر.. بل ويسعى أيضًا إلى تحقيق قدر كبير من التنمية فى الدول الإفريقية كوسيلة من وسائل محاربة الفقر والجهل والقضاء على الإرهاب، الذى يجد البيئة الصالحة لنشاطه والانطلاق من تلك الدول لنشر الخراب والدمار فى الدول المجاورة، ولعل هروب العديد من عناصر داعش إلى عدد من الدول الإفريقية مؤخرًا بعد تضييق الخناق عليهم فى سوريا والعراق وليبيا خير دليل على ما نقوله.
لقد حان الوقت ليعيد الرئيس عبدالفتاح السيسى لمصر دورها القيادى والريادى فى المنطقة العربية والإفريقية، كذلك لتكون لها مكانتها السياسية والاقتصادية بين دول العالم الكبرى، وكان باب الصين الكبير الذى فتح ذراعيه لمصر هو الممر الآمن للوصول إلى هذه المكانة، ولعل طريق الحرير الجديد سيجعل مصر مركزًا استراتيجيًا واقتصاديًا فى المنطقة والعالم أجمع، ما يفتح الطريق أمام شراكات وتحالفات عالمية للاستثمار فى بلادنا، وهو ما سوف يسهم فى النهوض بها ويجعلها تلحق بقطار التنمية السريع، الذى كانت الصين فى مقدمة المتواجدين به للانطلاق نحو مستقبل مشرق للأجيال القادمة بإذن الله.
وتحيا مصر.