ما بين الإهمال والإرهاب
كثيرًا ما نجد قواسم مشتركة بين بعض السلوكيات والأفعال، بحيث تصل فى النهاية إلى نتائج بها قدر كبير من التشابه يسعى كل طرف إلى تحقيقها سواء كانت تلك النتيجة سلبية أو إيجابية.
أحيانًا أخرى نجد أن هناك بعض السلوكيات أو الأفعال تؤدى إلى الوصول لمرحلة أخرى كنتيجة منطقية لها، طالما لم يحدث تصويب أو متابعة لها. وهنا يمكن أن نقول إن هناك علاقة طردية بين الإهمال والإرهاب، حيث إنه كلما زادت نسبة الإهمال فإنه من المحتمل أن يؤدى ذلك إلى نتائج كارثية تصل إلى حد الأعمال الإرهابية والتخريبية. وهنا أشير إلى حادث جرار قطار محطة مصر الذى راح ضحيته ٢٢ شهيدًا وإصابة ٤١ مواطنًا بريئًا فى مشهد تقشعر له الأبدان وتخفق له القلوب وتذرف بسببه الدموع، حيث إن التحقيقات المبدئية واستجوابات سائق الجرار والمحيطين بالحادث حتى الآن لم تخرج عن كونه كان نتيجة رعونة وإهمال السائق وبعض العاملين فى محطة مصر سواء كان ذلك متعمدًا أو غير متعمد. ولا شك أن هذا العدد الكبير من الضحايا، هو ما تسعى دائمًا الجماعات الإرهابية إلى تحقيقه لإحداث فتنة كبيرة بالبلاد، والتشكيك فيما بين النظام الحاكم وأجهزة الدولة والشعب.
وهنا نتذكر نتائج حادث مسجد الروضة فى العريش والكنيسة المرقسية والبطرسية، حيث كان الهدف ذلك الإنسان المسالم الذى يؤدى فروض عبادته دونما يكون له أى انتماءات سياسية أو أن يكون من العاملين فى الجهات الأمنية.
وهنا فإننا نجد تشابهًا كبيرًا بين ضحايا حادث جرار السكة الحديد، وتلك الحوادث المشار إليها، من حيث استهداف ذلك العدد الكبير، وكذلك إحداث حالة من الرعب والخوف فى نفوس الآمنين والأبرياء.
ولعلنا نشير أيضًا إلى العديد من التصرفات السلبية التى تصل إلى درجة الإهمال المتعمد، والذى يترتب عليه نتائج تختلف طبقًا لمن يقع منهم ذلك الجرم- وأنا بالفعل أعتبره كذلك- لما يترتب عليه من تداعيات كبيرة تؤثر بشكل أو بآخر على أمن واستقرار البلاد وسلامة العباد. ولعل أهم مظاهر حالات الإهمال تلك التى نراها حاليًا داخل الأسرة المصرية التى أصبح عنصراها وهما الأب والأم فاقدى السيطرة إلى درجة كبيرة على أبنائهما مما يجعلهم عرضة للتأثير عليهم بأشكال مختلفة من أنواع التأثيرات، فنجد أن هناك نسبة كبيرة من شبابنا تتعاطى المخدرات وتهجر التعليم، والبعض منهم يقع تحت تأثير السوشيال ميديا وأبواق الجماعات الإرهابية والشائعات المغرضة التى تحض على كراهية البلاد. فنجد البعض منهم ينحرف فى اتجاه الانضمام لتلك الجماعات، والتى تأتى جماعة الإخوان الإرهابية على رأسها، حيث يقعون تحت تأثير تلك الكوادر التى تقوم بتدريبهم وزرع بذور الفتنة فى نفوسهم وكراهية بلادهم، ودفعهم إلى التضحية بحياتهم لإرضاء قيادات تلك الجماعات.
فى حين نجد البعض الآخر يتجه إلى الكفر بالأديان جميعها، ويعلن إلحاده وانعزاله عن المجتمع. ويحدث كل هذا بسبب إهمال والديه فى تربيته ومتابعته فى المنزل والمدرسة والكلية، إلى أن وصل به الحال أن أصبح إرهابيًا يقدم على القيام بعمليات إرهابية عن قناعة أنها الوسيلة المثلى لكى يجد فى الآخرة ما لم يجده فى الدنيا.
ولعل هذا يفسر لنا أن معظم من يتم القبض عليهم أو من يقومون بعمليات استشهادية من الفئة العمرية ما بين ١٨ إلى ٣٠ عامًا، وهى الفئة التى ما زالت تخضع لرقابة الأسرة والمدرسة والجامعة.
ناهيك أيضًا عن تلك التشكيلات الإجرامية والعصابية التى تتكون من هؤلاء الشباب الذين أهملتهم أسرهم فى متابعتهم أو إرشادهم، وهم يقومون بنوعيات جديدة من الجرائم التى تعتمد على الدهاء والدقة التى يتعلمونها من شبكات التواصل الاجتماعى والألعاب الإلكترونية التى ترد لنا من الخارج، والتى تسيطر عليها الماسونية الصهيونية التى تهدف إلى تخريب عقول الشباب وتغريبهم عن ثقافات أوطانهم والسيطرة عليهم بتلك الوسائل الحديثة فى غياب كامل عن متابعة الأسرة، حيث دائمًا ما نجد نوادى البلاى ستيشن مليئة بهؤلاء الشباب، بهدف تصدير تلك الألعاب إليهم والسيطرة من خلالها عليهم، والبعد تمامًا عن اهتمامهم بما يصلح أحوالهم سواء فى دراستهم أو فى أعمالهم، ليخرج لنا جيل مغيب تمامًا عن الطموحات التى كنا نسعى ونحن فى أعمارهم إلى تحقيقها، ويصبح من السهل السيطرة عليهم وتوجيههم إلى ما يضر البلاد حتى ولو لم يكن ذلك من خلال عمليات إرهابية. ويكفى هنا أن نشير إلى الشباب الشريف الذى تم استغلاله فى ٢٥ يناير ٢٠١١ وكان إحدى أهم وسائل إسقاط النظام وتسليم الدولة إلى جماعة الإخوان الإرهابية. أيضًا من ضمن صور الإهمال الذى يترتب عليه العديد من الأخطار والأزمات التى تضيع بسببها حياة وأرواح العديد من الأبرياء، ذلك المهندس أو المقاول الذى يهمل فى عمله بالشكل الذى يجعل المبنى الذى يقوم بإنشائه عرضة للانهيار وإزهاق حياة الأبرياء، وذلك الطبيب الذى يهمل فى علاج مرضاه بالشكل الذى يؤدى إلى وفاة أحدهم، إلى أن وصلنا مؤخرًا إلى تلك الكلاب المتوحشة التى يهمل أصحابها فى السيطرة عليها وتحجيم حركاتها بالشكل الذى أدى إلى تلك الحوادث المؤسفة التى سمعنا عنها مؤخرًا من قيام تلك الكلاب بعقر بعض ساكنى العقارات أو هؤلاء الذين يتواجدون بالمصادفة فى الأماكن التى تتواجد فيها الكلاب، دون أى اهتمام أو احترام من أصحابها لأمن هؤلاء الأبرياء، وتلك صورة أخرى من صور الإهمال الفج الذى أعتبره إرهابًا من نوع جديد يثير الخوف والرعب فى نفوس الأطفال والسكان الذين يتعرضون لهجوم تلك الكلاب.
ومن المؤكد أننا لو دققنا فيما يدور حولنا من مظاهر اللامبالاة والإهمال، فسوف نجد الكثير والكثير مما أقصده اليوم، والذى يؤدى بلا شك إلى العديد من المخاطر والخسائر التى قد تعجز العمليات الإرهابية ذاتها فى تحقيقها.
ومن هذا المنطلق فإننا نجد أن الإهمال قد أصبح يمثل فى تلك المرحلة المهمة التى تمر بها البلاد، جريمة مكتملة الأركان. وإذا كان متعمدًا فإنه يكون إهمالًا مع سبق الإصرار، حيث نجد أن هناك ضرورة لمحاربة ظاهرة الإهمال التى أصبحت متفشية فى قطاعات عديدة، بسبب موروثات خاطئة وتراكمات وسلوكيات معيبة، خاصة أن هناك فئة أصبحت تمارس هذا الإهمال دون أن تشعر بالمسئولية أو وخز الضمير، ويحاولون إيجاد مبررات لذلك مثل قلّة الرواتب أو كثرة ساعات العمل، مثل ذلك السائق الذى ارتكب جريمة حادث محطة مصر، حينما قفز من الجرار ليتشاجر مع زميله وترك الجرار يتحرك بمفرده دون أن يحاول إيقافه، بل إنه قد غادر موقع الحادث وذهب إلى منزله غير عابئ بما حدث فى برود قاتل وأنانية مفرطة وغيبوبة عقلية وضميرية لا مثيل لها.
وبالرجوع إلى النصوص القانونية التى تعاقب على جريمة الإهمال، نجد أنها لا تتناسب مع حجم الجرم والخسائر التى ترتب عليه، وهو الأمر الذى يستوجب ضرورة إعادة النظر فى عقوبات تلك الجريمة، وتعديلها بما يتوافق مع الآثار المترتبة عليها وما إذا كان هناك ضحايا فى حالة وقوع تلك الجريمة كما فى حادث جرار السكة الحديد من عدم، وكذلك أيضًا ضرورة التفرقة بين الإهمال المقصود وغير المقصود بحيث يضع المشرع تفاصيل كثيرة حول تلك الجرائم، ليتيح الفرصة أمام القضاء لتحديد العقوبات الرادعة بحسب نوعية الجريمة وأسبابها وتبعاتها، ودرجة التعمد والقصد فى ارتكابها.
إن تعديل التشريعات الخاصة بجريمة الإهمال، باتت تمثل ضرورة ملحة لمواكبة حجم التطورات الهائلة التى تشهدها البلاد فى مختلف المجالات، والحفاظ على المكتسبات التى تحققت وما زالت تتحقق على أرض الواقع يوميًا.
كذلك فإن ذلك الإهمال الذى يترتب عليه ترويع الآمنين من البشر، والذى أعتبره أحد مظاهر الأعمال الإرهابية. فهو أيضًا يمثل تحديًا كبيرًا وله تأثير سلبى لا يستهان به فى خلق فجوة كبيرة من الشعب وأجهزته التنفيذية والتشريعية، وهو ما يلزم أيضًا أن نضع ذلك فى الاعتبار عند إعادة النظر فى تلك التشريعات.
وتأتى قبل كل هذا وذاك تلك المؤسسات التى يجب أن تؤدى دورها لخلق الشعور بالمسئولية والانتماء لدى الشباب، ابتداء من الأسرة والتى تمثل أهم مؤسسة تتعامل مع الطفل والتلميذ والطالب الجامعى فى مراحل عمره المختلفة، مع ضرورة المتابعة المستمرة فى مدرسته أو بين أصدقائه أو حتى تلك العلاقات التى يقوم بها من خلال شبكات التواصل الاجتماعى التى أصبحت أحد أهم وأخطر وسائل تجنيد الشباب للانضمام إلى تلك الجماعات التكفيرية أو للقيام بعمليات إرهابية، وهو ما تم مع هذا الشاب الذى قتل مؤخرًا فى منطقة الدرب الأحمر نتيجة تفخيخ نفسه بعبوة ناسفة وراح ضحيته ثلاثة من خيرة شباب رجال الشرطة.
ثم يأتى دور المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية كل فيما يخصه مستخدمين فى ذلك وسائل وأساليب تتناسب مع تطور العلوم التكنولوجية والإلكترونية، ولا نكتفى بالأحاديث الدينية والآيات القرآنية والبرامج الإنشائية التى فقدت مصداقيتها تمامًا عند شبابنا حاليًا. أتمنى أن أكون قد وفقت فى عرض فكرتى اليوم، والتى أرجو من المسئولين فى مواقعهم المختلفة ضرورة الاهتمام بها، خاصة أن خبرتى العملية فى مجال العمل الأمنى، تؤيدنى تمامًا فى أن الإهمال هو إحدى صور الإرهاب، بل إنه أحيانًا ما يكون أخطر منه وأكثر تأثيرًا عنه.
وتحيا مصر.