الحياد فى الثقافة والفن
يردد بعض الأدباء، وليس من الشباب فحسب، أنهم يكتبون للمتعة الفنية، ولاستبطان النفس، أو كما يقول الروائى الأمريكى «ريك مودى»: «أظن أننى متى كتبت سأكون إنسانا أفضل»، أو أنهم يكتبون للاستمتاع بالحيل الفنية أو حسب تعبيرهم المفضل «إثارة الدهشة»، وفى نهاية الأمر ينغمس العمل الأدبى فى استكشاف الذات والإبحار فيها والدوران حول النفس.
هم كما يقولون عادة يكتبون لأنفسهم. وتقطع تلك الشبكة من الأفكار الصلة بين الفن والمجتمع، وتنزلق بأصحاب المواهب إلى الحياد والوقوف خارج الصراع الاجتماعى. ويوقن كل مطلع على تاريخ الأدب المحلى والعالمى أنه ما من عمل أدبى عظيم إلا وارتبط بقضية عظيمة، يعلو بها إلى أفق إنسانى يجتاز الزمان والمكان. ويبقى السؤال: هل هناك حقا ثقافة أو أدب أو فن خارج الصراعات الاجتماعية والحروب.. خارج هموم الآخرين؟، هل هناك ثقافة محايدة متحررة من أى موقف؟. تجيب عن ذلك السؤال الأديبة والمخرجة الإنجليزية «فرانسيس سوندرز» فتقول إن نغمة «الثقافة الحرة» و«المثقف الحر» كانت المعزوفة الرئيسية للديمقراطية الأمريكية فى مواجهة «التزام الثقافة» بهموم المجتمع، وتضيف أن أمريكا قبل غيرها كانت تدرك تماما أنه ما من «حياد ثقافى» خارج الصراعات، وقادها ذلك الإدراك إلى حد أن: «وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كانت بمثابة وزارة الثقافة لأمريكا»، على حد تعبير المؤلفة فى كتابها «الحرب الباردة الثقافية». وتقول فرانسيس سوندرز إن أمريكا كانت تطالب الجميع خلال الحرب الباردة بالانهماك فى «الصراع الأيديولوجى» الذى يستهدف- حسب تحديد الرئيس الأمريكى إيزنهاور- «عقول وإرادات البشر». بهذه الرؤية تولت المخابرات الأمريكية شئون الثقافة داخل أمريكا وخارجها فأصدرت المجلات وأنشأت المنظمات التى لا يخلو اسم واحدة منها من كلمة «حرية»، وجندت لها كبار الكتاب والفنانين مثل «ت. س. إليوت»، وأندريه مالرو، ولورانس أوليفييه، وجان كوكتو، وإجنازيو سيلونى، وغيرهم. أما الذين رفضوا التعاون معها فكان نصيبهم المراقبة المستمرة والملاحقة على مدى أكثر من ربع القرن كما حدث مع أرنست همنجواى، أو الموت جوعا كما حدث مع داشيل هاميلت، بينما كانت أمنية «توماس مان» الحاصل على نوبل هى: «مغادرة أمريكا ذلك الكابوس المكيف الهواء»!. ومن أجل «توجيه المثقفين نحو رؤية أكثر توافقا مع المصالح والأسلوب الأمريكى: «شرعت المخابرات فى تأسيس وتمويل وتحريك» جبهة ثقافية من أجل الغرب باسم حرية التعبير «عام ١٩٤٩ بعد إعلان الرئيس ترومان عن برنامج النقطة الرابعة، وأخذت تظهر مختلف الأقنعة الثقافية «الحرة» مثل «منظمة الحرية الثقافية» التى عطلت فوز بابلو نيرودا بجائزة نوبل عام ٦٤، و«الاتحاد الدولى للحرية الثقافية»، و«نادى القلم الدولى» وغيرها، كما أنشأت المخابرات فروعا لكل تلك المنظمات فى معظم دول العالم، ومولت مجلاتها وكتبها وكتابها ومؤتمراتها وأمدت أعضاءها ببطاقات السفر ونفقات الفنادق ومصروف شخصى وغير ذلك. وتعميقا لنفس السياسة أضافت منظمة التجارة العالمية التى أنشئت عام ٩٥ لبرنامجها بند «الحرية الثقافية». وكان لا بد للمخابرات المركزية الأمريكية أن تتوارى عن الصورة تماما فلا تظهر خلال تلك الأنشطة، لهذا كان العثور على غطاء لتمويل تلك الجماعات الثقافية مهمة ملحة، وقد وجدته المخابرات فى مؤسسات مثل فورد «التى تمول جماعات حقوق الإنسان» وروكفلر وغيرها، كما وجدت أن أفضل وسيلة لمحاربة الشيوعية هى اليساريون المتحولون الذين تساقطوا وهم يعرضون خدماتهم على الدولة. وشيئا فشيئا تشكلت شبكة محكمة من البشر يعملون على التوازى مع وكالة المخابرات للترويج لفكرة الحياد الثقافى، وفصم الصلة بين الفن والمجتمع. فى الوقت نفسه كان رجال المخابرات الأمريكية يصدرون تعليماتهم الصريحة بشأن عمل تلك المنظمات غير الحكومية: «يجب على تلك المنظمات أن تحافظ على درجة من الاستقلالية، فلا تطلبوا منها تأييد كل جانب من جوانب السياسة الأمريكية الرسمية»!. وأخضعت المخابرات متحف الفن الحديث فى نيويورك لتعليماتها، وأجبرته على عرض كل الأعمال المتحررة من القواعد الفنية على أساس أن الوقوف مع أشكال «التعبير التجريدى» يعد رمزا للديمقراطية. وبدأت مؤسسة فورد فى برنامج «النشر المتبادل»، وأغرقت بأموالها الفرق الموسيقية والفنانين والسينمائيين والكتاب ومعهد الفن المعاصر من أجل إشاعة النموذج الأمريكى ثقافيا، وهدم الصلة القائمة بين كل فن عظيم ومجتمعه وهمومه.