ثورة 19.. القسيس فى الأزهر والشيخ فى الكنيسة
وكما استضاف الأزهر رجال الدين الأقباط استقبلت البطريركية جموع الشعب وعلى رأسهم شيوخ الأزهر
القسيس فى المسجد والشيخ فى الكنيسة، هذا المشهد المهيب الذى أهدته مصر إلى العالم هو وليد ثورة ١٩١٩. كان الاستعمار البريطانى يلعب دائمًا على مبدأ «فرِّق تَسُد»، ومنذ احتلاله مصر فى عام ١٨٨٢ ادعى لنفسه الحق فى «حماية الأقليات»، وكان قد سبق له تطبيق هذه السياسة فى الهند، أكبر مستعمراته فى آسيا.
مع اعتقال سعد زغلول ورفاقه فى ٨ مارس ١٩١٩، اندلعت الثورة فى اليوم التالى، وسرعان ما شملت جميع فئات الأمة المصرية؛ الشباب والنساء، العمال والفلاحين والبدو، الدلتا والصعيد، والمسلمين والأقباط. وانتشرت المظاهرات فى شتى ميادين المدن المصرية. وطبقت السلطات الإنجليزية الأحكام العرفية المفروضة منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقامت بمحاولة قمع الحركة الوطنية. وتم منع التظاهر فى الميادين العامة، فلجأت الأمة إلى دور العبادة لتصبح بحق ساحة للحركة الوطنية وسطوع شمس المواطنة فى مصر.
زحفت الجماهير إلى ساحة الجامع الأزهر التى تحولت بحق إلى ساحة للحرية يتردد فى رحابها صوت الأذان مع المطالبات بالجلاء والاستقلال. ولم تستطع القوات البريطانية اقتحام الأزهر، واكتفت بمحاصرته. وتأكيدًا لمبدأ المواطنة، ولثورة مصر القومية دخل إلى الأزهر رجال الدين الأقباط فى مظاهرة مهيبة ليلتحموا بالجماهير، وليخطب القسيس فى الأزهر، مبارك شعب مصر. وكان من أهم هؤلاء القمص سرجيوس الذى أصبح بحق خطيب ثورة ١٩، وتم تجسيد دوره فى المشاهد الخالدة فى نهاية فيلم «بين القصرين»، مشاهد ثورة ١٩.
ورأت الحركة الوطنية تأكيد فكرة المواطنة، وثورة مصر القومية من خلال الانتقال بالمشهد الوطنى إلى البطريركية القبطية التى كانت آنذاك فى الكنيسة المرقسية فى كلوت بك. وكما استضاف الأزهر رجال الدين الأقباط، استقبلت البطريركية جموع الشعب وعلى رأسهم شيوخ الأزهر، ليقف هؤلاء فى ساحة الكنيسة مرددين شعارات حىّ على الثورة، وكان من أبرز هؤلاء الشيخ مصطفى القاياتى.
وأمام فشل بريطانيا فى سياسة «فرِّق تَسُد»، ونجاح الأمة المصرية فى تأكيد وحدتها، لجأت بريطانيا إلى أسلوب حقير لم تستخدمه من قبل، حيث تم اعتقال زعماء الثورة من رجال الدين الأقباط وشيوخ الأزهر.
ولدينا مذكرات القمص سرجيوس التى يروى فيها كيف تم اعتقاله هو والشيخ مصطفى القاياتى ونفيهما إلى معسكرات الجيش الإنجليزى فى رفح على الحدود مع فلسطين، والإهانات التى تعرضا لها.
واحتجت الكنيسة القبطية على اعتقال السلطات البريطانية رجال الدين الأقباط، ولأنها لا تعترف بسلطة الاحتلال الإنجليزى، أرسلت الكنيسة تلغرافًا إلى السلطان أحمد فؤاد تستنكر فيه الاعتقال، وتطالب السلطان باسم الأمة المصرية التدخل لاحترام هيبة رجال الدين وسرعة الإفراج عنهم.
وبالفعل تم الإفراج عن القسيس والشيخ بعد أربعة أشهر ليعودا للاحتفال مع الجميع بنجاح الثورة المصرية، ليصبح مشهد القسيس فى الأزهر، والشيخ فى الكنيسة محفورًا فى الوعى الجمعى تخليدًا للقومية المصرية.