نحن والغرب.. مائة عام على الحرب العالمية الأولى«2-2»
أثار اندلاع الحرب العالمية الأولى جدلًا كبيرًا فى صفوف التيار الليبرالى العربى هذا التيار الذى استقى فكره وثقافته من أوروبا
كان الانتصار الكبير الذى حققه الحلفاء فى عام ١٩١٨، يخفى فى الحقيقة تحولات حضارية مهمة وخطيرة تصيب البنية الحضارية الأوروبية التى ازدهرت قرونًا عديدة منذ عصر النهضة. فتحت أقواس النصر وأكاليل الغار، كان البعض ينبه إلى أن هذا الانتصار هو فى الحقيقة انتصار بطعم الهزيمة، وأن الحضارة الأوروبية فى خطر بل إلى أفول.
فى تلك الآونة أصدر الفيلسوف الألمانى شبنجلر كتابه المهم «سقوط الغرب» فى عام ١٩١٨، هذا الكتاب الذى أصبح شاهدًا مهمًا على منحنى خطير فى تاريخ الحضارة الأوروبية. وترجم الكتاب إلى الإنجليزية بين عامى ١٩٢٦ و١٩٢٨. فى هذا الكتاب يطرح شبنجلر بجرأة، مصير الحضارة الأوروبية على بساط البحث، متنبئًا بتحولات عميقة فى مجريات هذه الحضارة. وبالفعل ستشهد الفترة التالية- فترة ما بين الحربين العالميتين- متغيرات خطيرة فى الفكر الأوروبى وانقسامات حادة فيه، لا سيما مع ظهور اليسار الماركسى فى الاتحاد السوفيتى، وانتشار الماركسية فى أوروبا، وأيضًا اليمين الفاشى وصعوده فى إيطاليا وألمانيا.
وانعكست أسئلة الحرب العالمية الأولى على عالمنا العربى مبكرًا، واهتم رموز الفكر العربى بهذه الحرب والتطورات التى تجرى فى أوروبا، واهتزت لديهم صورة أوروبا بلد الحضارة العالمية آنذاك.
إذ أثار اندلاع الحرب العالمية الأولى، جدلًا كبيرًا فى صفوف التيار الليبرالى العربى، هذا التيار الذى استقى فكره وثقافته من أوروبا، حيث وجد هذه القارة التى تربطه بها وشائج فكرية ونفسية تدفع نفسها دفعًا نحو حرب ضروس هائلة تلتهم الحضارة التى طالما تغنى بها هذا التيار، فكان عليه أن يقدم تفسيرات مقبولة لهذا الوضع الذى وصلت إليه أوروبا.
وعلى صفحات «السفور»، مجلة التيار الليبرالى فى مصر آنذاك، دار نقاش حاد وطويل بين أهم رموز التيار الليبرالى فى العالم العربى، فى محاولة لتفسير حالة الحرب التى تعيشها أوروبا وتنعكس آثارها على العالم بأكمله. ومنذ عام ١٩١٥ دار الجدل بين المفكرين العرب حول ذلك الشأن، فرأى الدكتور محمد حسين هيكل أن هذه الحرب:
«إن هى إلا نزوات الطيش تصيب الإنسانية حين ترى أن قد طال متاعها بالسكينة، وحين تنسى الويلات الكبرى التى تجرها الحروب المستعرة».
وكان الطرف الآخر لهذا الحوار هو الدكتور طه حسين الذى امتدح الحرب الدائرة فى أوروبا آنذاك معللًا ذلك بأن:
«الحرب تخلق الحضارة، وأن حالة الحرب الحاضرة تخلق حضارة التنافس».
وهكذا تحددت معالِم الخلاف بين قطبى هذا التيار، الدكتور هيكل يؤمن بمبدأ «الإخاء والسلام الذى تطمع فيه الإنسانية» وأن هذه الحرب مع كرهه لها ستقضى حتمًا على:
«مبدأ الأثرة واستعباد الضعيف، لتخرج لنا أوروبا جديدة أساسها المدنية والسلام، وأن الحرب لا بد لها أن تزول حتمًا من العالم».
ويرد طه حسين على هيكل موضحًا أهمية الحرب من أجل السلام قائلًا:
«إن السلم حين أرادت أن تتأيد وتشمل برحمتها أبناء الإنسان، لم تستطع أن تظفر بذلك حتى لجأت إلى عدوتها التقليدية الحرب، فسألتها المعونة والنصر ورغبت إليها فى المؤازرة والتأييد».
على أية حال كان واضحًا لهؤلاء المفكرين أن عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى سيختلف كليةً عما قبله، وأن هذه الحرب بشير بعالم جديد وحضارة جديدة ستطبع صورتها على أوروبا. وهكذا اتفقوا على أن هذه الحرب:
«قامت لإعلان إفلاس المبدأ القديم، وبشير بالمبدأ الجديد».
وكان على هذا التيار الفكرى العربى الانتظار لسنوات، حتى يدرك فى سنوات الثلاثينيات وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية فى عام ١٩٣٩، أن الحرب العالمية الأولى كما يصفها هيكل فى عام ١٩٣٢:
«كشف تعاقب السنين من بعد الحرب العالمية الأولى، عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوروبا التى حاربت فى سبيلها أربع سنوات تباعًا والتى بذلت فيها مهج أبنائها، لم تكن إلا قضية الاستعمار، ومن يكون لها حق التوسع فيه، دول الوسط أم الحلفاء؟».