ماذا يبقى من الثورة العرابية؟«3-3»
يعلمنا التاريخ دائمًا، أن الحدث يتصاعد وتدور أحداثه وينتهى، ولكن تبقى آثاره وتداعياته على الأحداث التالية، وربما يؤثر على تشكيل الوعى الجمعى للشعوب، فالحدث التاريخى لا يفنى ولا يُخلق من عدم.
إن مَنْ ينظر إلى ما انتهت إليه أحداث الثورة العرابية، ربما يسترعى انتباهه أنها أدت إلى الاحتلال الإنجليزى الذى استمر ربما حتى إلى ما بعد قيام ثورة يوليو وتوقيع اتفاقية الجلاء ١٩٥٤. وتمت أيضًا محاكمة عرابى ورفاقه بتهمة العصيان والتمرد، وانتهى بهم الأمر إلى النفى إلى جزيرة سيلان، سريلانكا الآن. وكادت ذكرى عرابى والثورة يطويها النسيان. ولا أدل على ذلك من شهادة أحد المتحمسين السابقين لعرابى، بعد عودة عرابى من المنفى:
«لقد نسيت ذكرى عرابى، وعندما عاد بعد نفى طويل، لم يكد يلاحظ عودته أحد. لقد شاهدته قبل عام من وفاته، فكان طاعنًا فى السن هزيلًا. وعاش فى بيت صغير فى حلوان عند حافة الصحراء، وكان علىّ أن أسأل الكثيرين حتى استطعت أن أستدل على بيته، هذا الذى كان بطلًا مثاليًا للجماهير. ولم يعرف الناس نبأ وفاته فى عام ١٩١١ إلى بعد أن وُورى جثمانه الثرى».
هكذا بدا الأمر وكأن صفحة الثورة العرابية قد طُويَت، وانتهى أمرها فى التاريخ بمجىء الاحتلال، ثم وفاة عرابى وحيدًا منسيًا. لكن الثورة كفكرة لا تفنى ولا تُخلق من عدم. إننا نجد آثار الثورة العرابية فى هذا الشعار الذى أصبح ملتصقًا بها «مصر للمصريين»، كان هذا الشعار فى واقع الأمر نتيجة التطور التعليمى والفكرى الذى شهدته مصر طيلة القرن التاسع عشر، هذا التطور الذى لعب دوره فى نمو الوعى القومى فى مصر. وسيظهر ذلك جليًا بعد عرابى فى نضال مصطفى كامل، رغم انتقاد مصطفى كامل تجربة عرابى. إذ يرفع مصطفى كامل شعار «بلادى بلادى»، الذى سيصبح بعد ذلك النشيد القومى لمصر. ثم تتجلى القومية المصرية فى أبهى صورها فى ثورة ١٩١٩، حيث «الدين لله والوطن للجميع».
وأصبحت وقفة عرابى فى مظاهرة عابدين أمام الخديو، رغم نزوله من على حصانه وغمد سيفه، رمزًا مهمًا فى وعى الجيش المصرى، وبداية لإبراز دور الجيش فى الحياة العامة. لذلك يكتب اللواء محمد نجيب فى عام ١٩٥٣، بعد قيام ثورة يوليو، مقدمة حميمية لمذكرات عرابى، موضحًا أن الضباط الأحرار قد استلهموا روح عرابى ووقفته أمام قصر عابدين، عند تفكيرهم فى القيام بثورة ٢٣ يوليو، بل يرى نجيب أنه هو نفسه امتداد لعرابى، ونجاح لمبادئه.
وأوضحت النهاية المأساوية للثورة العرابية، حقيقة مهمة فى التاريخ المصرى؛ أن الخلاف بين الجناح العسكرى فى الثورة، وكان معه أيضًا بعض المدنيين، وبين قطاع لا يُستهان به من الجناح المدنى، لا يخدم فى الحقيقة تطور الحركة الوطنية. وأبرز مظاهر ذلك الخلاف بين عرابى وشخصية كبيرة مثل على مبارك، هذا فضلًا عن كثير من الأعيان الذين خافوا على مصالحهم من التطور الراديكالى لأحداث الثورة.
هل نستطيع القول إن ذكرى الثورة العرابية لا تزال راسخة فى الوعى الجمعى المصرى؟.