"البرابرة".. حكاية أٌقدم مقهى بلدي في "مثلث ماسبيرو"
توقف سير الحياة لدى أحمد مصطفى لحظة أن شاهد بأم عينيه جدران مقهاه العتيق، المُتاخم لمبنى "ماسبيرو"، تتداعى بأذرع جرافات الهدم التي لم تتوان عن إزالة المنازل والمحلات الكائنة في "مثلث ماسبيرو"، حتى أنهت عملها منتصف شهر أبريل الماضي؛ حيث تحولت المنطقة برمتها إلى ركام ورماد، تحاصرها العمارات والفنادق الضخمة، وذلك لتطوير المنطقة، وبناء مجتمعات سكانية حديثة الطراز.
شيء غريب لا يعلمه "أحمد" يربطه بتلك البقعة التي رفض مبارحتها، رغم إزالة مقهى أبيه وجده، فما كان منه سوى أن جاء بثلاثة ألواح خشبية ثبتها في الأرض ليقيم "نصبة" يتحلق حولها بعض من جيرانه وأصدقائه في المنطقة نفسها، لم يستطعوا كبح أنفسهم عن المكان الذي شهد أفراحهم البسيطة وأحزانهم المتكررة، حتى لحظة خروجهم منه إلى وجهات مختلفة لم يألفوها بعد "الناس مشت بس روحها لسه هنا".
قبل نحو 60عامًا، هُجر جَدَ أحمد من قريته النوبية لإقامة مشروع السد العالي إبّان عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحل ضيفًا على أحد أقاربه في "مثلث ماسبيرو"؛ واستقر به المُقام، ثم شرع في البحث عن عمل، ليجد ضالته في النهاية بأحد المقاهي المشهورة بالمنطقة، يرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1908 "اشتغل صبي، لحد ما ربنا كرمه واشتراها"، ومن ثم أطلقوا عليها "قهوة البرابرة.. عشان إحنا من النوبة".
اعتاد أحمد الذهاب إلى المقهى منذ صغره، لمساعدة والده وعمه في العمل الذي توارثه أفراد العائلة برمتها، حين كان صيت المقهى يجوب أنحاء منطقة "بولاق أبو العلا" بأكملها؛ بسبب الدور الكبير للمقهى "القهوة كانت زي ملتقى لكل أهالي النوبة اللي اتهجروا من أسوان أو اللي عايشين هنا"، هؤلاء الذين وجد أبوه وجده فيهم ونسًا يخفف عنهما وطأة الغربة.
"لما يكون فيه فرح في الحتة، كنا نعلق دعوة والناس كلها تعرف من القهوة".. أيام ذهبية شهدها المقهى البلدي الوحيد في تلك المنطقة "القهوة دي كان لها تصريح مكتوب فيه قهوة بلدي"، لذلك يعتقد أن المقهى الذي لم يعد موجودًا كان جزءًا من تاريخ المنطقة، ومن ذكرياته التي لا تُحصى أيضًا "كانت أيام حلوة".
كان لاكتساب المقهى، الذي بلغ مساحته 50 مترًا، شهرة واسعة أنه مثّل وجهة دائمة للسياح العرب والأجانب مرتادي الفنادق المجاورة، الأمر الذي ساعده ماديًا في الإنفاق على أسرته رفقة أبناء عمومته "القهوة كانت بتصرف على تلات أسر"، غير أن قرار الإزالة أصاب ميزانيته في مقتل "عندي بنت وولدين مصاريفهم لوحدهم كبيرة جدًا".
حتى الآن، لم ينته الرجل الأربعيني من إنهاء الأوراق الخاصة ببيع المقهى، والتي تتطلب موافقة جميع الورثة، مهمة أخرى شاقة على نفسه، يحاول التظاهر بقبولها كلما واجه أيًا من أفراد عائلته أو المسؤولين "المتر الواحد بـ7 آلاف جينه"، يحسب حسبته على أصابعه، يمتعض وجهه "في الآخر كل واحد هيطلع له 10 آلاف جنيه"، ذاك المبلغ الذي لا يكفي حاجته لتأجير أيّ محل حتى في منطقة شعبية "أقل حاجة 15 ألف جينه، غير رواتب الصنايعية وفواتير المياه والكهربا".
بجانب القطط التي لم تغادر المكان مع من رحلوا مع أهالي المنطقة، يلازم أحمد مصطفى التفكير فيما هو مُقبل عليه، لم يعد أمامه سوى أيام قلائل ويترك أطلال مقهى عائلته الذي اعتاد المجيء إليه منذ الصباح الباكر وحتى وقت متأخر من الليل "هاخد التعويض وهمشي أشوف حالي، بس روحي هتفضل ساكنة هنا".