حكايات التيه والظل
-أورثنى أبى الحيرة والتيه، وحين أقلّب فى أوراقه، فى أوراده.. أردد بينى وبين نفسى: يالحظك.. يا بختك.. ليتنى أكون فى الظل.
■ لم يكن أبى موظفًا كبيرًا
كان أبى حطابًا.. قاطع أشجار.. ولما تغيّر الوقت ولم يعد من الحطب غير أسماء المطاعم الشهيرة فى مدينة نصر، صارت الغابات تتحرك بعيدًا عن الصخب، وكل شجرة تتحسس مكان رأسها وتنفّض من أذنيها السخام الذى يطارد مسامها، بقى أبى، ولتزجية وتسلية النفس، أمسى قاطع طريق، يوقف العابرين ليسألهم عن الأنفاق التى خلخلت خلايا النحل، والكبارى التى غضنت مداخل المدن.
■ لم يكن أبى موظفًا كبيرًا..
كان راعيًا للأغنام، اكتشف يومًا أن عصاه تلتصق بصخرة، لم تكن الصخرة حجرًا، كانت سرًا، قلبًا، ظل أبى مجذوبًا لمداراته، وعندما ابتعدت غنماته لم يلحقها وتركها تذهب وحيدة لشاطئ البحر.. لم يكن بحرًا هادئًا متوسطًا، أو أحمر، كان بحرًا هائجًا، تدافعت الغنمات لقلبه، لم يشعر أبى بالفقد، ظل جالسًا على صخرته يتابع المد والجزر.
■ لم يكن أبى موظفًا كبيرًا.. كان أبى عاملًا فى قصر الملك..
■ فى بعض الأوقات، كان بوابًا للقصر يسمح ويمنع.. ودائمًا ما يحرك عينيه: عينًا للداخل حيث يسمع ويلمح ماذا يحدث حول الملك، وعينًا للخارج تدور بين الفلاحين والتجار والنساء العابرات فى الأسواق.. هذه الرؤية الثنائية مكّنت لأبى أن يدل الناس الواقفين بباب الملك على الأوقات المناسبة لطلب الصفح أو تخفيف عقوبة، أو طلب عطية من الملك.. لكن الذى لم يلاحظه أبى قط أن أسراب النمل تفر من القصر.
■ ذات مرة أصبح رسامًا فى بلاط الملك.. رسم يومًا طفلين فقيرين يأكلان العنب والبطيخ، وكانت ملابسهما ممزقة، وأظافرهما طويلة وقذرة، وأرجلهما متسخة.. غضب الملك.. كيف تقع عيناه على هذه القذارة، خرج أبى مطرودًا من القصر.. وتعلّم الدرس جيدًا، فكان يستهلك من المنظفات لغسل وجوه وأجسام الرعية أكثر مما يستهلك من ألوان لرسمهم.
■ مضى بعض الوقت وعادت أسراب النمل لبلاط الملك، وعاد أبى للقصر، ارتدى أثوابًا عديدة.. أحيانًا يكون شاعر البلاط، وأحيانًا لقمان الحكيم، وفى كل الأحيان كان عليه أن يقول كل ما يريد بالتورية، بالتحلية، بالمباغتة.. يستطيع أبى أن يخدع الملك الذى لا يعرف غير أن يأمر السياف مسرور.. مات الملك ومن بعده ألف ملك، لكن أبى ظل قابضًا على باب القصر الكبير.
لم يكن أبى موظفًا كبيرًا..
ذات مساء أتاحت له ضربة قدر أن يدخل الجنة، طرق بابًا وانفتح الباب على البراح، حيث النور والظل دون وطأة الشمس والحر والجحيم، أحاط النور أبى، فغشيت عيناه، ولم يستقر، ظل يتخبط، ويبحث عن مخرج، كيف لم يتسرب ولو قليل من النور الذى يغمره إلى داخله، إلى روحه؟!، ما الذى حجب أبى وجعله دائم التلفت للأرض.. أى جزء من روحه يشاقق روحه؟!.
أورثنى أبى الحيرة والتيه، وحين أقلّب فى أوراقه، فى أوراده.. أردد بينى وبين نفسى: يالحظك.. يا بختك.. ليتنى أكون فى الظل.. يصمت أبى، لا يمنحنى إدراكًا أو تفهمًا، فقد كان كل ما يشغل أبى كيف يكون موظفًا كبيرًا، فظل طوال الوقت يلتفت ويتألم ويحن.