ثورة يوليو.. القطيعة والاستمرارية فى التاريخ المصرى «1-2»
يعانى الفكر المصرى المعاصر من مشكلة كبيرة ومزمنة فى الوقت نفسه، ألا وهى فكرة القطيعة مع الماضى القريب، وأن التاريخ يبدأ من عند «الأنا» لينتهى أيضًا عند «الأنا»، دون النظر أو الاعتبار إلى فكرة الاستمرارية فى التاريخ، والتواصل بين الأجيال، وأن الجديد رغم حداثته، إلا أنه فى الحقيقة يولد من رحم القديم، ويظل حتى بعد ميلاده وخروجه إلى النور يحمل بعض سمات الماضى.
إن خير مثال على هذه الإشكالية فى التاريخ المصرى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، إذ درج البعض على اعتبارها بداية التاريخ المصرى المعاصر، أو بالمفهوم الجديد نهاية التاريخ، نافيًا ما قبلها، رافضًا أى جديد يحدث بعدها، دون الاعتبار إلى رؤية حلقات التاريخ المصرى، وعوامل التأثر والتأثير فى الأحداث المتتابعة، ومدى خطورة ذلك فى إحداث حالة القطيعة بين الأجيال، بل القطيعة فى التاريخ، والبدء مع كل ثورة من جديد، والاستهانة بأن البطل الحقيقى هو الشعب المصرى صانع التاريخ.
ويرصد اللواء جمال حماد، أحد أبطال ثورة يوليو، وأحد أهم مؤرخيها، أيضًا هذه الظاهرة المهمة والخطيرة فى كتابه المهم «٢٢ يوليو أطول يوم فى تاريخ مصر» قائلًا: «حرص بعض الكُتّاب على نفاق الحكام من أبناء هذه الثورة، إلى الحد الذى جعلهم يعتبرون أن تاريخ مصر وكفاح شعبها من أجل حريته، إنما يبدأ فجر ٢٣ يوليو ٥٢، متناسين ماضى مصر المجيد وملحمة الكفاح الرائعة لأبنائها عبر السنين».
من هنا وجدنا العديد من الكتابات أثناء فترة ثورة ٢٣ يوليو، تنتقد بشدة، بل وبحدة، ثورة ١٩١٩ وزعماءها، لا سيما سعد زغلول ومصطفى النحاس، وانتقل ذلك إلى الميثاق الذى ركز على فشل ثورة ١٩١٩، وعلى ركوب الزعماء الموجة الشعبية للثورة، والمؤسف انتقال ذلك إلى الكتب المدرسية، وأدى ذلك إلى إحداث شبه قطيعة مع الماضى القريب بين ثورتين من أهم الثورات المصرية، ليس فقط على المستوى المحلى، بل على المستوى العربى، وربما أيضًا على المستوى العالمى.
إذ لا يستطيع أحد أن ينكر مدى الأثر الذى أحدثته ثورة ١٩١٩ على العالم العربى، والذى تجلى بشدة فى ثورة ١٩٢٠ فى العراق، وثورة ١٩٢٥ فى سوريا، هذا فضلًا عن حالة الليبرالية الفكرية التى عاشتها مصر بعد ثورة ١٩١٩، وتأثير المفكرين المصريين من أمثال لطفى السيد وطه حسين وهيكل وأحمد أمين والزيات وغيرهم على الفكر العربى بشكل عام.
من ناحية أخرى كانت ثورة ١٩١٩ من الأحداث العالمية المهمة، فمصر لم ترض بالاحتلال وخرجت ثائرة على بريطانيا العظمى، القوة رقم واحد فى العالم آنذاك، التى خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، حيث قدمت مصر التضحيات من أجل الاستقلال، ولهذا حظيت تلك الثورة وزعيمها سعد زغلول باحترام زعماء «العالم الثالث» آنذاك مثل غاندى وكمال أتاتورك وغيرهما.
وكذلك ثورة ١٩٥٢، حركة التحرر الوطنى، التى انعكس أثرها ليس على مصر فحسب، بل على حركات التحرير فى العالم العربى وإفريقيا، وامتد تأثيرها إلى دول العالم الثالث، عبر حركة عدم الانحياز، واكتسبت احترام زعماء العالم الثالث آنذاك مثل نهرو وسوكارنو وتيتو وغيرهم.
عودة من جديد إلى إشكالية القطيعة بين الثورات فى تاريخ مصر المعاصر، إذ سيستغل البعض ذلك فى تأجيج أتون الصراع السياسى، فاتحًا الباب لظاهرة الصراع السياسى بسيوف التاريخ. ولعل نموذج أنور السادات خير دليل على ذلك، فمع عودة حزب الوفد من جديد فى سنوات السبعينيات وصعوده فى الحياة السياسية، لجأ السادات إلى سيوف التاريخ، لاعبًا على فكرة القطيعة فى التاريخ المصرى، مُهيلًا التراب على الفترة السابقة على ثورة يوليو: «القديم ميرجعش أبدًا، قيادات الثالوث، بتاع الملك والإنجليز والإقطاع الممثل فى كبار الملاك».
وهكذا استخدم السادات مصطلح الثالوث، وهو توظيف خطير للمصطلح، إذ لعب السادات هنا على المشاعر الإسلامية التى لا تقبل فكرة «التثليث»، لا سيما فى ظل مناخ السبعينيات المشبع بالطائفية الدينية، كما يمكن أيضًا تفسير تلاعب السادات بالألفاظ باستخدامه مصطلح «الثالوث»، بأنه يسعى إلى الانتقال من حكم «الثالوث» إلى حكم الفرد، وصولًا إلى أن حكم الفرد هو بمثابة التوحيد