نابليون بونابرت معلقًا رياضيًا
إخراج المنتخب الروسى منتخبنا المصرى من المونديال بثلاثة أهداف يؤكد أن قاعدة الانتصار هى التنظيم والبناء العام الذى تنخرط فيه المكونات الفردية، بينما أكد الهدف الذى أحرزه محمد صلاح أن عبقرية الموهبة الفردية تظل استثناء جميلًا مثل الزهرة التى لا تخلق ربيعًا بمفردها.
شهد التاريخ المصرى فى الثقافة والأدب والسياسة والحروب استثناءات الموهبة العبقرية التى لم تخلق ربيعًا.. شاهدنا بطولة عبدالمنعم رياض فى العسكرية والحربية، ورأينا فى العلوم عبقرية الطبيبين مجدى يعقوب ومحمد غنيم، والعالم المصرى عادل محمود، رائد أبحاث اللقاح، الذى نعاه العالم منذ أيام ونحن لا نكاد نشعر به، وعايشنا نجيب محفوظ الذى قادنا إلى نوبل فى الآداب، ومن قبله طه حسين الفلاح الصعيدى الضرير الذى تمكن بعبقريته من نشر النور على الثقافة العربية، وأخيرًا ها نحن نتابع موهبة محمد صلاح الفذة التى وضعته بصفته أفضل لاعب كرة قدم فى العالم.
وقد ظلت مصر دومًا تومض بتلك العبقريات الفردية فى عصور الظلام، والتنوير، والعدل، والظلم، لتعلن أنها حية وعصية على الصمت، لكن تلك العبقريات كلها هى الاستثناء، إذ لم تستطع واحدة منها أن تفسح للربيع مجالًا، وظل نورها يتقطع كالنجوم البعيدة بين الغيوم القاتمة.. سجلت الأهداف الروسية الثلاثة حقيقة أن التنظيم والتكوين أقوى من المهارات الفردية أيًا كانت عظمتها.. وكان نابليون بونابرت أول من انتبه إلى تلك الحقيقة حينما غزا مصر، واشتبكت جنوده مع المماليك، وتابع المعارك وقال: «يستطيع ثلاثة مماليك بمهاراتهم الفردية أن يهزموا عشرة جنود فرنسيين، وعشرة مماليك يمكنهم التغلب على عشرين، لكن مئة مملوك ينهزمون أمام كتيبة فرنسية من ثلاثين جنديًا».
هذه القصة التى أوردها أحمد حمروش فى كتابه «مصر والعسكريون» تبيّن لنا بدقة الفارق بين مهارات العبقرية الفردية ذات الأفق المحدود، والقوة التى يمنحها التنظيم والتخطيط والتكوين العام، وتبين لنا أيضًا أن قاعدة الانتصار فى أى مجال هى التنظيم العام.. ما الذى نفعله لكى نبنى قاعدة رياضية مصرية؟ كم ننفق على النشاط الرياضى فى المدارس؟ كم لدينا من النوادى وصالات التدريب؟.. فى الخارج تدخل الرياضة بصفتها مادة أساسية فى كل مراحل التعليم، الرياضة بكل أنواعها من شطرنج وكرة قدم إلى هوكى وخلافه، وتنتشر الملاعب وحمامات السباحة فى كل مكان، وتؤدى دورها فى المناخ البارد أو الحار دون توقف.. ومن الصعوبة بمكان القول إننا نعتمد على قاعدة «التنظيم»، لكننا نعقد آمالنا فقط على الاستثناء النادر الذى يومض بمواهب الشعب المصرى: محمد صلاح فى الكرة، ونجيب محفوظ فى الأدب، ومجدى يعقوب فى الطب، ومحمد عبدالوهاب فى الموسيقى، وطه حسين فى الثقافة، وعادل محمود فى العلوم، وهكذا. لكننا لا نحاول إرساء حجر أساس لتنظيم قوى فى تلك المجالات. ولك أن تتساءل: كم ننفق على الأبحاث العلمية؟ كم ننفق على الفنون داخل المدارس؟ كم ننفق على نشر الأدب وغرسه فى نفوس الطلاب؟.. وللمقارنة فقد شاهدتُ حين كنت أدرس فى موسكو عربة من عربات مترو الأنفاق مخصصة للأدب، تدخلها، فتجد على جدرانها لوحات بصور الأدباء العظام، ومقتطفات من أقوالهم، وسير حياتهم، أما عندنا فإن أقصى ما بلغه خيالنا السقيم أن نقترح إقامة أكشاك للفتاوى داخل محطات المترو! الفرد المتفوق حالة استثنائية لا تخلق ربيعًا، أما التنظيم والتخطيط فكفيلان بذلك، وللمواهب الفردية حدود لا يمكنه أن تتجاوزها أيًا كانت عظمتها، وهى قد تلمع مرة وتخبو عشرات المرات، أما التنظيم فيبقى القوة الضاربة الحقيقية لأى مجتمع ينشد التطور.. ولعل ذلك هو الفارق الحاسم بين الرقص الشرقى، وفن الباليه، الرقص الشرقى يعتمد على مهارات فردية للراقصة، وهى محدودة مهما تمكنت الراقصة من فنها، لأنها «فرد»، أما فى الباليه فيلوح فن التنسيق والتناغم بين أكثر من راقص، ما يمنح العمل قوة وثراء غير مسبوقين.
فى شبابه كان الأديب الفرنسى العالمى ألبير كامو، صاحب رواية «الغريب»، حارس مرمى فريق جامعة وهران فى الجزائر عام ١٩٣٠، وكتب فيما بعد عن تجربته مع كرة القدم يقول: «كل ما أعلمه عن الحياة تعلمته من كرة القدم.. تعلمت أن الكرة لا تأتى أحدًا قط من الجهة التى ينتظرها منها»!، والأديب الكبير محق، ولكن بوسعنا أن نضيف شيئًا إلى ما قاله، وهو أن علينا الاستعداد بالتنظيم للكرة التى لا ندرى بعد من أى جهة ستأتى.