محمد عبدالمطلب.. المؤذن الذي هز "قلب مصر"
قبل أن يقرر جمال عبدالناصر بناء السد العالى.. وقبل أن يذهب «حراجى القط» إلى هناك للعمل فى السد وكتابة خطاباته إلى حبيبته فى النجع.. التى كانت سببًا فى شهرة الأبنودى.. وفى أننى أتصور أن كل عامل فى السد هو حراجى.. وأن كل حبيبة فى أى نجع مصرى هى «فاطنة».. لم نكن نعرف من «النور».. إلا «نور المولى عز وجل».. وربما كانت فرصة أمام الشعراء ليتغزلوا فى «القمر»، ويعاقبوه على طريقة هانى شاكر «كدا.. برضه يا قمر.. تصاحبنى ع السهر».. كما أنها كانت فرصة ليثبت كل عاشق لحبيبته قدرته على عد «النجوم» فى السماوات.
هذه الصورة الشاعرية جدًا لم تكن عليها حياتنا أبدًا قبل أن تصل إلى نجعنا أعمدة الكهرباء محملة على عربات الكارو، وأمامها «زفّة» من رجال قريتنا بالبنادق، وهم يضربون النار والأطفال يضربون على «الطبلة الكبيرة» فيما يصدح صوت المزمار البلدى.
كان دخول الكهرباء لقريتى أمرًا جللًا.. وكان يوم عيد لأمى التى تعبت عيناها من دخان «اللمبة الجاز».
كانت هناك أنواع متعددة من «اللمبات».. كلها تؤدى إلى «السولار» فى النهاية.. وكنا نشتريه فى «قزايز» لملء العلبة الصفيح التى تنتهى بشريط قماش هو مصدر الإنارة.
كل يوم.. وأول ما المغرب يدّن.. تجلس أمى أمام «طشت» تضع فيه «البنورة» التى تحاوط اللهب فى اللمبة.. هذه لمبة متطورة عن «العويل»، وهو اللقب الذى كنا نطلقه على اللمبة أم شريط قماش، والذى تتم زراعته فى قلب العلبة الصفيح المملوءة بالجاز.. أو «الغاز».. كما كان يسميه البعض منا.
هذا هو حال معظم البيوت الفقيرة فى الريف المصرى قبل أن تدخلها كهرباء السد.. لكن البيوت الغنية نسبيًا كانت تعرف «الكلوب».. وهو علبة زجاجية كبيرة نسبيًا.. بداخلها «رتينة». يتم ملؤها بالسبرتو.. وهو مصدر إنارة نظيف لا دخان فيه مثل «اللمبة نمرة عشرة. أو لمبة العويل»..
إذا كنت عرفت هذه الأشياء.. وارتبطت بها مثلى.. وعرفت الفرق بين قيمة كل منها.. ستعرف حتمًا أن «الكلوب هو أرقاها» ولهذا غنينا له فى تراث الصعيد «الزمن زى الكلوبات.. لُمبْ العويل بطلوها».
أقول.. إذا كنت عشت ذلك.. أو سمعت عنه.. فحتمًا ستعرف قيمة محمد عبدالمطلب.. الذى كان يصفه جدّى بحمار الإذاعة.. لكنه يعود ويقول: أهو الحمار ده.. هو الكلوب اللى بينور فى الليل.. «ومحدش يعرف يستغنى عنه».
ظل الأمر مربكًا بالنسبة لى.. لسنوات.. كيف لحمار أن يتبوأ تلك المكانة الكبرى فى عقل وقلب الغناء المصرى.. يلحن له رياض السنباطى وعبدالوهاب ومحمود الشريف والموجى وكمال الطويل وبليغ حمدى ومحمد فوزى.. مين ده؟!
الإجابة لم تكن سوى جملة قالها عبدالمطلب نفسه للموسيقار متعدد المواهب منير مراد.. فالوقائع تحكى أنه قابل «طلب» فى إحدى السهرات.. فذهب إليه مبتسمًا مادًا يده بالسلام ففوجئ بـ«طلب» يسأله «إيه يا منير مش عايز تخش التاريخ.. اللى عبدالمطلب مايغنيلوش يا منير مايخشش التاريخ.. لإنى أنا التاريخ يا منير».
أحب حكمت فهمى وتعرض للطرد من ملهى بديعة مصابنى بعد اعتدائه على زبون
حتى بلغت العشرين من عمرى لم أكن أحب أغنيات طلب.. ولا عبدالوهاب.. ولا فريد الأطرش.. كنت قد بدأت كتابة الشعر.. وأقرأ مقولات أدونيس عنه.. وإنسان خلق مفردات الحداثة والتجريب.. وكنت أرى فى كلمات أغنيات هؤلاء تسطيحًا مقيتًا من ناحية.. وحالة من الذل غير المبرر يصدرونها عن علاقة الرجل بحبيبته.
«فى قلبى غرام محيرنى على خصامك وطول بعدك..
وأقول أنساك
يحايلنى.. ويغلبنى زمان ودّك».
طبعًا هذه الصورة لم تكن ترضينى كشاب متمرد يكتب الشعر- أو يحاول كتابته- ورغم كل هذا الغرور وادعاء الجدية والبحث عن «المغاير.. والمتعدى والكاسر للمألوف»، كنت مثل أقرانى أذهب إلى السينما لأشاهد أفلام ملكة التسطيح فى جيلنا.. نادية الجندى.
هذه الراقصة هى نفسها الجاسوسة التى تعاونت مع الألمان ضد الإنجليز فى واحدة من أشهر قضايا الجاسوسية فى العالم.. والمعروفة بعملية «كوندور».. واتهمت فيها حكمت فهمى مع الرئيس الراحل أنور السادات وحسن عزت.. وتم الزج بهم فى السجن.. ولم تعترف حكمت فهمى على شركائها - بدافع وطنى صرف- وظلت فى سجن المنصورة على ذمة القضية لمدة عامين ونصف العام، حتى أفرج عنها لتعود إلى ممارسة الرقص سنوات قليلة أدركت فيها أن الزمن لم يعد زمنها فيما وصل السادات مع الفريق عزيز المصرى.. والضباط الأحرار إلى قرارهم بطرد الملك.. وإقامة دولة ٢٣ يوليو.
الواقعة لم يسردها عبدالمطلب ولا حكمت فهمى.. بل روتها بديعة مصابنى بنفسها عندما ذهبت لتحذر محمد فوزى الذى كان يعشق زميلة له بالملهى.. فذكرته بمصير عبدالمطلب الذى أحب حكمت فهمى.. وعندما حاول أحد الزبائن فى الكازينو معاكسة الراقصة حكمت، ترك عبدالمطلب المسرح الذى يغنى عليه وذهب إلى الزبون «اللى طول إيده شوية».. ومنحه «روسية».. أردته جريحًا على الأرض ليقبض عليه الأمن، ويذهب به إلى قسم شرطة الموسكى، ويبيت ليلته هناك متهمًا بشج رأس الزبون الذى عاكس الراقصة. وبعد خروجه من «الحجز» يذهب إلى بديعة التى تفاجئه بطرده هو وحبيبته من العمل.. ثم تصبح القاعدة التى أرستها فى «الكازينو» بعد ذلك.. «لا وجود للعشاق فى هذا الملهى».
حفظ القرآن صغيرًا.. عمل مؤذنًا لمدة عام تنفيذًا لأوامر داود حسنى.. والتحق بفرقة عبدالوهاب
هذا الغرام الذى أطار عقل طلب، لم يدم طويلًا.. فالرجل الفلاح القادم من قرية شبراخيت بمحافظة البحيرة بحثًا عن المجد.. الفلاح الذى حفظ القرآن صغيرًا.. وجاء إلى «بيت المعز» بحثًا عن «الموسيقى» التى تعلمها على يد «داود حسنى»، لا شىء له فى هذه القاهرة سوى فنه الذى لم يحصل عليه بسهولة.
والد محمد عبدالمطلب.. فلاح بسيط.. لكنه كان يجيد الغناء أيضًا.. ويجيد تلاوة القرآن.. لذا عمل لسنوات مؤذنًا فى مسجد قريته.. وهى الوظيفة نفسها التى مارسها عبدالمطلب فى القاهرة لمدة عام.. ليس لأنه لم يكن يملك مالًا.. أو بحثًا عن وظيفة.. ولكن تنفيذًا لأوامر داود حسنى الذى طلب منه البحث عن مسجد يؤذن فيه لمدة عام كامل حتى ينضبط صوته بعد أن علمه المقامات الموسيقية.. و«الأوتار» ومعظم فنون الموسيقى.. قبل أن يلتحق بفرقة محمد عبدالوهاب كفرد من الكورال شارك فى عشرات الأغنيات التى سجلها مطرب الملوك على أسطوانات، ويظهر فيها صوت «طلب» العريض من بين أصوات الكورس.
«بتسألينى بحبك ليه..
سؤال غريب ما جاوبش عليه..
الدنيا ليل ساكن هادى
وأنا غريب فى الدنيا دى
وأنتى القمر نورك بادى
لقيت فى ضيك إرشادى».
«اسأل عليا مرة
أنت قساوتك ليه..
أنا أفديك بعنيا..
وأكتر منهم إيه».
«ساكن فى حى السيدة..
وحبيبى ساكن فى الحسين
وعشان أنول كل الرضا
يوماتى أروحله مرتين
م السيدة.. لسيدنا الحسين».
اختار لأغنيته مقام «عربى».. وفى نفس الوقت «غربى» هو مقام الكورد.. ثم ضحك عليه وعلينا بأن سحبه فى جولة ما بين أصعب المقامات الشرقية وأكثرها نفاذًا فى الذائقة المصرية.. «الرست.. الصبا.. البياتى».. هذه التنقلات التى تشبه قفزات العصافير على طريقة فوزى «هضمها» عمنا «طلب»، ليصنع لنا واحدة من الأغنيات التى يصعب تصنيفها.. وأعتقد أن كمال الطويل لم يكن بعيدًا عما فعله فوزى، عندما قدم له لحنًا يصعب وصفه وتصنيفه أيضًا اسمه «الناس المغرمين» من كلمات عبدالوهاب محمد. واسمع كده:
«بتقول وتعيد لمين..
وتشكى لده.. وده
الناس المغرمين..
مايعملوش كده..
دول مهما اتألموا..
بيداروا.. ويكتموا..
ولا يوم يتكلموا.. ويشمتوا العدا
الناس المغرمين.. مايعملوش كده».
«السبت فات..
والأحد فات
وبعد بكرة.. يوم التلات
معاد حبيبى..
معاد حبيبى».
هذه الملامح من شخصية صوت عبدالمطلب فرضت نفسها على الجميع.. صوت بلدى.. فلاح:
«وأنا مالى..
وأنا..
مالى..
يا بوى وأنا مالى».
«بياع الهوى راح فين
يا مسهر دموع العين
راح فين.. بياع الهوى».
«الدبلتان والأسورة» تحولت إلى طقس مصرى خالص
هذه الحارة بتجلياتها المختلفة فى أغنيات مثل.. «اعمل معروف يا بو عود ملفوف».. و«يا حاسدين الناس مالكم ومال الناس» وغيرهما.. أسهمت السينما فى ترسيخها بجلباب عبدالمطلب أحيانًا.. وبمواويله فى أحيان أخرى.. لكن أغنيتين شهيرتين له كانتا وستظلان «طقسًا» مصريًا خالصًا يمارسه الأغنياء والفقراء معًا.. فلا أحد يتصور أن يذهب إلى الصاغة لشراء شبكة ابنه أو ابنته دون أن ترن فى أذنه أسطورة طلب.
«تسلم إيدين اللى اشترى
الدبلتين والأسورة».
هذه الشجرة التى تفرعت على مدار سنوات امتدت لخمسين سنة كاملة من الغناء الشعبى الشيك، لم تمنع بليغ حمدى من اقتحام حنجرة طلب الذى كان يحبه بإيقاعات الجركا التى رفضها من منير مراد فى أغنية «يابو قلب دهب»، ولم تمنعه أيضًا من تزويده بحر طلب بماء الفلكلور المصرى.
«آه يا بوقلب دهب
آه. يا ذوق وأدب
يا جمال ماوصفشى
زيك ماحصلشى..
سبحان من وهب».