ثورة يوليو والسينما «2-2»
تبدأ أولى خطوات ثورة يوليو بالاهتمام بالسينما ودورها فى تقديم التاريخ وصناعة الوعى، فلم يكن من قبيل المصادفة أن تُخصص مجلة «أخبار السينما» العدد التالى، أى عدد أكتوبر ١٩٥٣، للحديث عن: «هل أهملت السينما المصرية تاريخنا؟».
تتساءل المجلة: ماذا فعلت السينما بهذا التاريخ كله، التاريخ المصرى، بهذه الثروة الضخمة التى تركها القدر فى أيدينا فلهونا بها ولم ننتفع بها؟.
هكذا تتضح استراتيجية الثورة مع السينما والتاريخ والإرشاد القومى.
ولعل الصراع على جريدة مصر الناطقة خير دليل على ذلك، هذه الجريدة الإخبارية المصورة التى كان يصدرها ستوديو مصر، وتُعرض فى دور العرض قبل عرض الأفلام. ففى العصر الملكى تدخلت الدولة لمساعدة بنك مصر على إصدار هذه الجريدة، التى كانت تصدر قبل ذلك فى مناسبات خاصة، فقدمت الحكومة دعمًا سنويًا قدره ١٧٥٠ جنيهًا لإصدار الجريدة، وطلبت الحكومة فى العصر الملكى إصدار الجريدة بصفة منتظمة كل أسبوعين، لما فى ذلك من دعاية لمتابعة نشاط الملك فاروق، وأيضًا الحكومة. وقدمت وزارة الشئون الاجتماعية، المسئولة عن السينما، دعمًا يُقدر بحوالى خمسة آلاف جنيه سنويًا لهذه الجريدة.
ولكن عندما قامت الثورة، وقبل مرور عام على قيامها، تخرج علينا مجلة «الاقتصاد والمحاسبة»، فى مارس ١٩٥٣، بموضوع عن ستوديو مصر، تخبرنا فيه بأن مجلس قيادة الثورة طلب من ستوديو مصر إصدار الجريدة بشكل أسبوعى، وقرر أيضًا ضرورة عرضها فى كل دور العرض، التى قدّرتها المجلة آنذاك بحوالى ١٢٠ دارًا فى مصر.
وطبيعى أن يطلب مجلس قيادة الثورة من ستوديو مصر إصدار جريدة مصر الناطقة مرة أسبوعيًا؛ لمتابعة النشاط المكثف لأعضاء مجلس قيادة الثورة، فضلًا عن التأثير الساحر للسينما فى الوعى الجمعى المصرى، وقدرة السينما على تقريب الناس من رجال العهد الجديد.
ونختلف كثيرًا مع الرؤية التى يقدمها الناقد والمخرج الكبير «محمد كامل القليوبى» عن علاقة ثورة ٢٣ يوليو بالسينما إذ يقول:
«هكذا قدّمت السينما المصرية ثورة يوليو، أو على الأصح هكذا قامت باحتوائها فى إطار أكثر مفاهيمها تخلفًا، فثورة يوليو، كما قدّمتها السينما المصرية، ليست سوى انقلاب تآمرى أنجزه عدد من ضباط الجيش مع عدد من بنات الأسر الإقطاعية وبعض أعضاء جهاز البوليس السياسى قبل ١٩٥٢».
إننا نرى عكس ذلك تمامًا، إذ نجحت الثورة فى تطويع السينما وتوظيفها فى الدعاية السياسية لها. ولعل أهم الأمثلة على ذلك؛ الفيلم الشهير «رد قلبى» الذى أصبح درسًا مقررًا على المُشاهد فى التليفزيون المصرى فى كل عيد لثورة ٢٣ يوليو، حتى ارتبط العيد بالفيلم، والفيلم بالعيد. وأدى ذلك إلى التأثير على العقل الجمعى لأجيالٍ عديدة من المصريين، لم تتعود أن تقرأ التاريخ من مصادره الحقيقية، ولكن من مصادر أخرى بديلة ورخيصة أحيانًا. وربما يفسر هذا الضجة الكبرى التى حدثت فى المجتمع المصرى عقب إذاعة مسلسل الملك فاروق، لقد كان السؤال: هل فاروق «حلو» أم «وحش»؟!، انبهر بعض من شاهد المسلسل بحقيقة أن فاروق لم يشرب الخمر يومًا.. إن هذا ضد المقرر السنوى عليهم، أقصد صورة فاروق فى فيلم «رد قلبى»، وضد الصورة العامة للباشوات فى الفيلم، بل الصورة العامة للعهد البائد «العهد الملكى».
وينبغى تذكر عدة أشياء عند التعرض لفيلم «رد قلبى»، ربما يأتى على رأسها الطابع الرسمى للفيلم؛ فمخرج الفيلم «عز الدين ذو الفقار» هو ضابط جيش سابق، وكاتب القصة والحوار هو «يوسف السباعى» ضابط جيش أيضًا، والوجه الجديد فى الفيلم «أحمد مظهر»، كان لا يزال ضابط جيش، ومن المقربين لجمال عبدالناصر، كما أن البطل الرئيسى فى الفيلم «شكرى سرحان» يقوم بدور أحد الضباط الأحرار، والبطل الثانى «صلاح ذو الفقار» كان فى الحقيقة ضابطًا أيضًا ولكن ضابط شرطة، وهو نفس الدور الذى لعبه فى الفيلم.
ويرى الناقد السينمائى الكبير «كمال رمزى» أن هناك ظاهرة كبرى بعد ثورة ٢٣ يوليو، هى ظاهرة «أصحاب البدل الصفراء»، أى الضباط، وإظهارهم فى صورة مثالية.
على أى حال احتفل مجلس قيادة الثورة بخروج الفيلم فى عام ١٩٥٧، إذ حضر عبدالناصر ورفاقه العرض الأول للفيلم فى سينما «كايرو» بالقاهرة، كما منح عبدالناصر وسام الجمهورية لشكرى سرحان، ويقول شكرى سرحان فى ذكرياته إن عبدالناصر قال له: «نشكرك على فيلم رد قلبى، لقد نجحت دائمًا فى تصوير دور ابن مصر البار».
المثال الثانى عن احتواء ثورة يوليو للسينما وتوظيفها لخدمة العهد الجديد، هو سلسلة الأفلام المُسماة «إسماعيل يس فى...» سواء الجيش أو الأسطول، أو البوليس الحربى، أو الطيران، أو حتى البوليس.
لقد عملت الثورة على الاستفادة من النجاح الباهر لإسماعيل يس فى تلك الفترة بتقديم سلسلة من الأفلام تحاول تجسير الفجوة بينها وبين الناس، والمُخاطب هنا الجماهير العادية، جماهير إسماعيل يس، والأجيال الجديدة التى تعشق إسماعيل يس، حيث كان فى ذروة توهجه، وواضح تمامًا كم المساعدات التى قدمتها القوات المسلحة لإنتاج وإنجاح هذه السلسلة من الأفلام، التى بدأت بفيلم «إسماعيل يس فى الجيش» عام ١٩٥٥، وطبيعى أن تبدأ السلسلة باختيار الجيش، فالجيش هنا، أو القوات البرية، هى عماد الحركة، فالثورة هى ثورة الجيش.
ثم تتوالى الأفلام: إسماعيل يس فى البوليس «١٩٥٦»، فى الأسطول «١٩٥٧»، لا سيما بعد حرب ١٩٥٦ ودور البحرية فيها، ثم فى البوليس الحربى «١٩٥٨»، فى الطيران «١٩٥٩»، وهكذا نجحت الثورة- رغم وصف النقاد هذه الأفلام بالهزلية- فى الترويج لنفسها فى السينما فى محاولةٍ لخلق وعى جديد.
من ناحية أخرى سيسير السادات بعد توليه رئاسة الجمهورية على نفس السياسة السابقة التى اتبعتها الثورة فى مطلع أيامها.. فمن المعروف تشجيع النظام الساداتى للأفلام التى انتقدت العهد الناصرى، تحت مسمى «سقوط دولة المخابرات»، ولعل أفلاما مثل «الكرنك» أو «زائر الفجر»، وكلاهما عُرض فى عام ١٩٧٥، تعتبر مماثلة لأفلام «رد قلبى» و«الله معنا» فى التنكيل بالعهد السابقالعهد البائد، ومحاولة صناعة وعى جديد.
وفى هذا وذاك تتمزق الأمة التى تنتشر الأمية بين صفوفها، وينحصر صوت المثقفين فى دوائر مغلقة، بينما تستقى الأغلبية تاريخها ووعيها من السينما، ثم من هذا القادم الجديد- آنذاك- التليفزيون، ولهذا قصة أخرى طويلة ليس مجالها هنا.