أحمد خالد توفيق بين الدراويش والإخوان والمثقفين
أمسى رحيل الطبيب الأديب أحمد خالد توفيق كرة من خيوط متشابكة، متناقضة، عاطفية وسياسية وأدبية بل أخلاقية أيضا تستدعى تخليص الخيوط من بعضها البعض، خاصة أن كل الأطراف والعوامل قد تجاذبت صورته حتى لم يعد واضحا من هو بالدقة أحمد خالد توفيق. وبداية يجب القول إن تسديد الطعنات إلى راحلين لتوهم هو على المستوى الأخلاقى نوع من الجليطة وقلة الذوق، أيا كان الطابع الموضوعى الذى تتغطى به الكلمات، فقد كان هناك- وسيظل هناك- ما يسمى مراعاة شعور الآخرين بغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك مع أسباب أحزانهم، فلا الانتقادات ستختفى، ولا أعمال أحمد توفيق، ولا الزمن الذى سيسمح بفحص طبيعة أعمال الكاتب أدبيا.
على المستوى السياسى حدث نوع من الهرجلة، إذ صمم الإخوان على وضعه أيقونة فى معسكرهم بسبب موقفه من أحداث رابعة، وقال البعض إنه ناصرى، وأقسم آخرون أنه مستقل! ثم بلغ الأمر إحاطة الراحل بهالة نورانية، لأنه كأنما تنبأ بموعد وفاته، والحقيقة أنه كان يجرى عملية القلب كل عدة سنوات فى ٣ أبريل، وطبيعى أنه كان يخشى أن يموت خلالها، وهو ما حدث أثناء العملية منذ أيام، فتحول الأمر إلى قدرة على قراءة الغيب. على المستوى الأدبى هاجمه البعض بشدة، ونفى أن يكون أحمد خالد توفيق أديبا أصلا، وللحق فقد حاولت قراءة روايته «يوتوبيا» ولم أستطع إتمام القراءة، لكن ذوقى واستقبالى للعالم ليس معيارا. فى المقابل قارن البعض بينه وبين نجيب محفوظ، مؤكدا أن أعمال الكاتبين باقية مهما قيل عنهما! وإذا نحينا جانبا الاعتبارات السياسية التى تجاذبت صورته والاعتبارات العاطفية العارضة، سيبقى الاعتبار الرئيسى بالنسبة للأدب هو السؤال حول قيمة ما تركه الكاتب لقرائه.
والذين سخفوا أعمال د. توفيق انطلقوا من مقارنته بأعمال كبار الكتاب وانتهوا إلى أنه- على ضوء تلك المقارنة- ليس أديبا. البعض صرح بوضوح بأنه لم يقرأ له عملا، لأن أعماله ظهرت فى سياق الأعمال التجارية الجماهيرية. والبعض قال إنه قرأ له نصف رواية ولم يستطع إكمالها، وينطلق أصحاب هذه النظرة من أن الأدب عجينة واحدة، ومستوى واحد، ويخاطب جمهورا محددا من القراء، هم قراء جابرييل ماركيز، وكورتاثر، ودينو بوتزاتى، وغيرهم. وهكذا فإن للفن عند أصحاب هذه النظرة درجة لا ينبغى أن ينقص عنها. وهذه النظرة تفتئت على تاريخ الفن الذى عرف منذ بداياته إلى يومنا درجات مختلفة من الخطاب الفنى والتذوق والتلقى، كلها ينتسب إلى الفن. والأدب الجماهيرى أدب، طالما قاد خطى الكثيرين إلى أدب أعمق، وطالما اشتمل على درجة ما من عناصر الأدب، كالتسلية، أو الإمتاع، وفى الستينيات كان جيلنا كله يقرأ بنهم «أرسين لوبين»، و«شرلوك هولمز»، و«روكامبول»، و«أجاثا كريستى» لمن تعمق منا وأصبح أستاذا فى القراءة! ولم يختف هذا الخط الأدبى من الآداب الغربية على امتداد تاريخها وأوضح نماذجه «ج. ك. رولينج»، مؤلفة هارى بوتر، وغيرها. هذا الخط الجماهيرى من صميم الأدب، لكنه ليس الأدب كله.
وقد كان هذا خط أحمد خالد توفيق، بالطبع من السهل إدانة ذلك الخط، لكن يظل تفسير الظاهرة وليس إدانتها هو الأبقى والأنفع للناس وللأدب. وهنا تبرز عدة أسئلة: لماذا وجد كثير من الشباب أنفسهم فى «مصاص الدماء» التى بدأ بها توفيق حياته الأدبية عام ١٩٩٣؟ وفى «يوتوبيا» وغيرهما؟ هل أننا لا نفهم الشباب؟ ما طبيعة الفجوة التى قامت بيننا وبينهم بحيث لم نعد قادرين على العثور على لغة مشتركة معهم؟ ما الذى فعله د. أحمد خالد توفيق بحيث يستحوذ على عواطف الشباب ولم يفعله الأدباء الآخرون؟ أقول، على سبيل المثال، إن الأدباء يقومون بإدانة المخدرات، لكن أحمد توفيق يوضح من وجهة نظر الشباب سر استخدامهم المخدرات، إنها ملاذ، ومغامرة، ونهاية، وبداية، إنه يوضح العالم من وجهة نظر الشباب، أيا كانت وجهة نظرهم، ولا يوضحه من وجهة نظره هو، إنه ينطق بلسانهم ويعرضهم ولا يتعرض لهم.
هناك أيضا لجوء الكاتب إلى الفانتازيا، رغم أن أغلب عناصرها لديه مأخوذ تقريبا من خيالات سينمائية وروائية مستهلكة، لكنه مع ذلك فتح للأدب الجماهيرى طريقا مختلفا عن التناول الأدبى الواقعى، وهو طريق سار عليه الأدب الأوروربى من زمن. أخيرا يجب القول إنه إذا كانت هناك درجات فنية مختلفة من التذوق والتلقى والمخاطبة، فإن من العنت والتعسف أن نفرض على الناس لونا واحدا، حتى لو كانت لدينا ملاحظة قاسية وصحيحة بشأن مستوى الأعمال الأدبية أو مستوى التذوق، إذ لا يمكن أن نطالب الشباب بأن يتذوقوا فى مراحل الشباب ما يتذوقه الآخرون وهم فى الأربعين. لقد وجد أحمد خالد توفيق قراءه ووجد قطاع واسع من القراء كاتبهم المفضل، ولم يحدث قط أن قام الأدب الجماهيرى بتعطيل الأدب الرفيع عن مواصلة رحلته.. فليتفضل الجميع وليكتبوا، ودع مائة كاتب يتفتحوا.