التاريخ والفلكلور.. تاريخ الناس «2-2»
لم يكن هدفنا الأسبوع الماضى الدفاع عن أهمية الفلكلور بالنسبة للمؤرخ، ولكتابة تاريخ المجتمعات، فقد خفتت حدة الهجوم على هذا الاتجاه من جانب المدرسة التاريخية التقليدية، واعتمد الكثير من المعاهد العلمية فى الغرب وحتى فى إفريقيا هذا الاتجاه.
وأصبحت الحكايات عن الأبطال والمواويل القصصية والسير الشعبية والأمثال والحكم والرقصات وما يصاحبها من غناءٍ وموسيقى، والرسوم الساذجة والصناعات البسيطة، تصور حياة المجتمع من نواحٍ كثيرة. ولا يمكن لباحثٍ فى تاريخ المجتمع أن يتجاهل هذا التراث الذى يمكن أن يُنير له الطريق لكى يستطيع فهم عقلية المجتمع وعادات أفراده وحياتهم عامةً، مما يتيح له أن يدرس تاريخهم بشكلٍ أسهل وأكثر يسرًا. ذلك أن الإنسان منذ فجر البشرية يقص على أبنائه وأحفاده قصص أسلافه ممتزجةً بأساطيره ومعتقداته.
ويؤيد تراثنا العربى هذا الشأن، إذ كان الطابع الشفاهى هو السمة الغالبة عليه، وظل هذا الطابع الشفاهى مسيطرًا على الثقافة العربية لفتراتٍ طويلة، حتى بدأ عصر التدوين بعد الإسلام بفترةٍ ليست بالقصيرة. ويُرجِع البعض ذلك إلى انتشار الأُمية بين العرب، حتى أن المؤرخ «البلاذرى» يذكر أن الإسلام قد دخل قريش وليس بها سوى سبعة عشر رجلًا يكتب فقط!
من هنا وضع علماء الحديث، لا سيما منذ القرن الثانى للهجرة، شروطًا قاسية لإسناد الحديث النبوى وتوثيقه، وأدى ذلك إلى نقد سلسلة السند تعديلًا وتجريحًا. وقد انعكس أسلوبهم هذا على المؤرخين أيضًا، ولكن ليس بنفس الدرجة من التقصى أو التحقق أو الدقة، خاصةً عندما كان الأمر يتعلق بالقصص.
وإذا أردنا أن نتبين مدى أهمية كل ذلك فى فهم تاريخنا وواقعنا المعاصر سنضرب بعض الأمثلة التطبيقية على ذلك. فحتى الآن فى بعض قرى محافظة المنيا يُسمى الفلاحون بعض البدو أو الفلاحين القادرين بـ«لزيمى» أى يا مُلتزِّمى. إشارةً إلى نظام الالتزام الذى طُبِق فى الريف المصرى، والذى كان يُضيف للملتزم بعض السلطات المادية والمعنوية على الفلاح المصرى.
وكذلك يُسمى فقراء الأقباط أثرياء المسلمين «يا بدوى» أى يا سيدى العربى، كنايةً عن الدور التاريخى الذى لعبته القبائل العربية فى الصعيد وسيادتها على هذه المنطقة، فضلًا عن عمل الكثير من الأقباط فى السلك الإدارى التابع لمشايخ هذه القبائل، وبالتالى منح مشايخ القبائل حمايتهم على الأقباط التابعين لهم.
كما نجد فى الأمثال الشعبية العديد من الشواهد التاريخية حول الأوضاع الطبقية الصارمة التى عانى منها الفلاح، وعدم إمكانية الحراك الاجتماعى، أى انتقال الفرد إلى طبقة أعلى، فضلًا عن سيادة طبقة الحكم. إذ يقول المثل الشعبى: «إن طلع من الخشب ماشة يطلع من الفلاح باشا».
كما تُعالج الأمثال الشعبية مسألة سيادة العنصر الأجنبى على الحكم، السياسة والاقتصاد، فى مصر لفتراتٍ طويلة، وتوارى العنصر المصرى عن لعب أدوارٍ مهمة فى هذا الشأن، إذ يقول المثل الشعبى: «ديار مصر خيرها لغيرها».
ويسخر المصرى بطبيعته من نظام الإدارة المحلية التى يتعسف رجالها فى التعامل مع الحاجات اليومية البسيطة للإنسان المصرى، إذ يصف التعامل مع الجند المماليك «الغُز» بأنه فى غاية الخطورة، حتى ولو عمل الإنسان معهم: «أخرة خدمة الغز علقة». كما يسخر من القاضى المرتشى وأثر ذلك فى غياب العدالة قائلًا: «القاضى إن مد إيده كترت شهود الزور».
كما يُوجه سهام النقد لوظيفة المحتسب، وهو الموكول إليه مهمة مراقبة الأسواق والأسعار والمكاييل والموازيين، إذ يشير إلى عدم كفاءة بعضهم أحيانًا وتعسفهم فى هذا الشأن، لا سيما فيما يتعلق بدقة الموازين والمكاييل والمصادرات التى تحدث من جراء ذلك: «المحتسب الغشيم زايد إرمى ناقص إرمى».
وتقدم لنا الأغانى الشعبية رؤية أخرى مغايرة للتاريخ الرسمى الذى تقدمه معظم الكتابات التاريخية، إذ تُمجِّد معظم الدراسات التاريخية نظام التجنيد الذى أدخله محمد علىّ فى مصر، وترى فيه بداية تكوين «الجيش الوطنى» وأيضًا تأسيس «مصر الحديثة» و«نمو الوعى القومى». وكان التجنيد يتم بفرض عددٍ معين من الأنفار على كل قرية، ويترك لشيخ البلد جمع هؤلاء، وكان هذا الشيخ يختار المجندين من عامة الفلاحين الذين لا يستطيعون دفع عدوانه.
فى حين تحكى الأغنية الشعبية أسفار أم المجند وجريها وراءه وضعف سلطانها وتجردها من العصبية، فهى أم فقيرة تسأل ابنها الشاب أن يُخفى علامات فتوته ورجولته المبكرة عن شيخ البلد فربما ينساه من التجنيد. وهى تنقد نظام التجنيد بشكلٍ لا نحسب شيئًا آخر فى مثل عمقه وصدقه من المصادر التاريخية الرسمية. إنها تعبر عن صوت الشعوب الرافضة للحروب، هذه الحروب التى تصبح الشعوب فيها وقودًا لأحلام وأطماع الحاكم. إذ تُبدى الأم الحسرة على أنها وابنها لم يهربا إلى الواحات حتى ينقضى «الفرز» الذى يُختَار فيه المجندين:
ياريت هجينا ورُحنا الواح
حيث انقضى شهر الفرز وراح
كما تُلقى الأم بحكمة المقهورين وأحلام الفلاحين فى بقائهم فى زراعة الأرض، وكراهية هذا الزى «الميرى» الذى يلبسه المجندون، والشوق إلى العودة لزى الفلاحين:
يا باشا لبسو خلجو (أى ثيابه كفلاح)
دى العمة لبس أبوه وهله
لبس العساكر إجلعه وإرميه
وإلبس عزالك نعرفك مِنيه
كما تسجل الأم دعوة لوقف الحرب والسلام، تصلح لأن تكون دعوة لكل أمهات العالم اللاتى فقدن أبنائهن فى حروبٍ لا طائل من ورائها:
على مين يجول لى درب اللطام سدوه
كَفوا البنادج والبارود كَبوه
على مين يجول لى درب اللطام انسد
كفوا البنادج والبارود انكب
هكذا نجد أن الفلكلور ينجح فى تقديم صورة أخرى للتاريخ الحى، التاريخ الشعبى، ربما أكثر حيوية ومصداقية مما يمكن أن يقدمه «التاريخ الرسمى».