جيوش الشعر
أشارت الصحف إلى أن أكثر من مائتى شاعر من مصر والعالم العربى، سيشاركون فى معرض الكتاب فى القاهرة. وقد شهد معرض الكتاب فى تونس عام ٢٠١٥ شيئًا مماثلًا حين قدم نحو مائة وثلاثين شاعرًا، وسيقيم معرض القاهرة ٢٧ أمسية شعرية بواقع أمسيتين يوميًا. السؤال هو: هل لدينا حقًا هذا العدد الضخم من الشعراء؟ وإن كان فكيف لا نشعر بوجودهم؟!. لهذا الموضوع جانبان: الأول إجرائى متصل بنشاط المعرض، والثانى جانب فنى متصل بقضية الشعر والأدب عامة.
ومعروف أن الشعر الحديث حطم القصيدة العمودية، منتقلًا إلى شعر «التفعيلة» ثم إلى ما يسمى قصيدة النثر، التى فتحت الباب واسعًا للمئات أو الآلاف من محبى الكتابة. وليس لدىّ اعتراض لا على قصائد التفعيلة، ولا حتى على الشعر المنثور. السؤال هو: هل هناك ما يستحق القراءة أو الاستماع فى طوفان ما يعرض علينا؟. فى إحدى قصائد بابلو نيرودا، كتب يخاطب المحبوبة: «أريد أن أكون لك ما يكونه الربيع للأزهار». يكفى أن تقرأ هذا البيت مرة لتحفظه إلى الأبد لأنه شعر، بغض النظر عما إن كان نثرًا أم تفعيلة أم شعرًا عموديًا! لكننى أمر بأطنان من القصائد الحديثة فأنساها عن ظهر قلب، مع أنه ليس لى موقف سلبى مسبق لا من الشعر ولا من التجريب.
إلا أننا نلمس لدى الغالبية العظمى ممن يكتبون اللهاث وراء الشكل، والعناوين المثيرة، والصياغات الغرائبية، والإبهام، كأن الشعر لا يسكن إلا فى العجائب. بمناسبة خطورة التركيز على الشكل فى الأدب كانت للعظيم «بريخت»، ملاحظة جميلة يقول فيها: «يحدث لبعض الفنانين وهم يتأملون العالم أن تضيع منهم المادة لدى اهتمامهم بالشكل. لقد عملت مرة عند بستانى ناولنى مقص حدائق، وطلب منى أن أقصص شجرة غار. كانت الشجرة مزروعة فى أصيص من أجل احتفالات معينة. وكان المطلوب أن تأخذ الشجرة شكل كُرة، فبدأت مباشرة بقص الأغصان الناشزة. وكم بذلت من جهد لأصل إلى شكل الكُرة. لكن ذلك ظل طويلًا مستعصيًا. مرة أجد نفسى قد أكثرت من القصقصة فى هذا الجانب، ومرة فى ذاك الجانب. وعندما حصلت أخيرًا على شكل كُرة كانت صغيرة جدًا، فقال لى البستانى محبطًا: «طيب. هذه هى الكُرة، فأين شجرة الغار؟».
والسؤال: أين الموضوع أصلًا فيما يكتب من طوفان الشعر، الذى يغمرنا به شعراؤنا؟. بصدد القضية نفسها يقول الناقد الأمريكى «برنار دى فوتو»: «الاهتمام الزائد بالتكنيك يشير عادة إلى ضعف قوة الإبداع، كما أن الاستهانة بالتكنيك تشير إلى ضعف الذكاء». وخلف التركيز على الشكل يكمن بتر العلاقة بين الأدب والمجتمع، والتدمير الذى تم على مدى زمنى طويل لمفهوم الالتزام الذى عرفه طه حسين بأنه: «ليس إلزامًا للكاتب من الخارج بل التزام من داخل الفنان». ويكتب الناقد الفرنسى المعروف «تيزفيتان تودروف»، فى كتابه «الأدب فى خطر»، ينبه إلى أزمة الأدب المعاصر، التى تنذر على حد قوله «بزوال القراءة فى الأجل القريب»، والخطر الذى يهدد الأدب عند «تودروف» هو النظرة الشائعة التى فصلت العمل الأدبى - بطرق مختلفة - عن دوره الاجتماعى.
والخطر أيضًا هو تلك النظرة «الشكلانية»، التى ترى أن دور الأدب هو بالأساس فى العناية بالبناء الفنى المبتكر وطرائق توليد النص والأسلوب والأشكال السردية والوسائل التقنية بجميع أشكالها. أيضا ينساق معظم الشعراء إلى النظرة التى تحسب أن ذات المبدع هى الحقيقة الوحيدة الباقية، مما يسوق الكاتب إلى حالة نرجسية يصف معها بأدق التفاصيل أتفه تجاربه الجنسية وأدنى انفعالاته والانجراف إلى نزعة «الأنا».
الشكلانية، و«الأنانة» و«العدمية»، التى ترى استحالة تغيير العالم، كل هذه الاتجاهات أدت إلى قطع الصلة بين العمل الأدبى والمجتمع، وتبلورت وبرزت فى مدارس مثل «البنيوية» و«التفكيكية»، التى حولت العمل الأدبى إلى «موضوع لغوى مغلق مكتفٍ بذاته.. باعتباره مجرد علاقات بين أجزاء العمل الفنى». وقد ظهرت القطيعة بين الفن ودوره الاجتماعى - بما فى ذلك الشعر - فى مطلع القرن العشرين مع رواج الدعوة إلى أن هدف الفن الحقيقى: «إبداع الجمال» بكل ما يعنيه ذلك من استبعاد أى بُعد معرفى للعمل الأدبى.
يختتم «تودروف» كتابه المهم بتساؤله: «أليس من مصلحتنا أن نحرر الأدب من القيود الخانقة المصنوعة من ألعاب شكلانية وشكاوى عدمية وتمركز أنانى على الذات؟». يحضرنى بهذا الصدد قول «بريخت»: «كيف للفن أن يحرك الناس، إن لم تحركه مصائر الناس؟ ولئن تحجرت مشاعرى أمام معاناة الناس فكيف تتفتح مشاعرهم لكلماتى؟». والآن، إما أن يتحرر الأدب والشعر من الأزمة أو نظل نقرأ عن مائتى شاعر لا نذكر بيتًا واحدًا لأحدهم، بينما نقرأ بيتًا واحدًا لشاعر واحد نحفظه مدى الحياة.