أبلة سارة المسيحية
هناك أشخاص يدخلون إلى حياتنا فيتركون لنا علامات في الفكر والوجدان، ولا يمكن بأي حال من الأحوال نسيان مواقفهم معنا أو فضلهم، فقد نقشوا في روحنا كل ما هو جميل كما لو ينقش النحات في الحجر.
عندما التحقت بمدرسة الحرية الابتدائية في منيا القمح سابقًا، مجمع الملك فهد حاليا، لبدء حياتي الدراسية كأى طفل يبلغ عمره الـ6 سنوات، حملت حقيبتي بداخلها كتبي وكشاكيلي وسندوتشات وزمزمية، وأمسكت أمي الطيبة بيدي وأخذتني إلى المدرسة، الحرية وقتها، وأدخلتني، ثم غادرت وتركتني داخل عالم جديد كان من الصعب استيعاب التعايش فيه.
كنت طفلا لا يدرك سوى أن يتعامل مع أمه وأبيه داخل المنزل ، وانتابتني الحيرة لما يقرب من أسبوع بعد أن التحقت بأحد الفصول، ظللت منطويا على نفسي، ولكني كسرت حاجز الخوف بعض الشيء، وأدركت حينها أن التعامل أمر ضروري وهام لمسايرة الحياة حتى لا تتأخر عمليا.
أتذكر أنني كنت من ضمن المتفوقين منذ أول أسبوع، ولكنني كنت أبحث عن أم بديلة تلعب دورا في التربية والترغيب في حب الدراسة والدفاع عنك ضد كل من يحاول أن يمسك أو يهينك.
أثناء جلوسي في الفصل، فوجئت بأحد المسئولين الإداريين في المدرسة يدخل إلينا طالبا ممن يرغب في النقل إلى فصل آخر أن يرفع يده، قمت على الفور وقلت له: "أنا". كانت موافقتي لها سببا، وهو ما سمعته عن أبلة سارة المسيحية عن دورها في التربية وحبها للطلبة ورعايتها لهم جميعا، وأنا وقتها لم أكن أدرك معنى كلمة مسيحي أو مسلم، ففي النهاية نحن نسيج واحد.
انتقلت على الفور إلى فصلي الجديد بعد أن جمعت حقيبتي وغادرت لأبدأ وسط أصدقائي الجدد، تحت قيادة أبلة سارة المسيحية، تلك الأستاذة والمربية الفاضلة، التي أثقلت قدراتي العملية وقتها، شعرت وكأنها تحبني كأمي وكانت تحرص على معاملة الجميع بطريقة واحدة ، ولكنني كنت أشعر أنها توليني عناية خاصة، وكثيرا ما دافعت عني ، ولها دور هام في تأسيسي علميا.
دورها في ترغيبي في الدراسة وكونها وضعتني في مصاف طلبة الابتدائي من ذات سني في هذا الوقت أمر مفروغ منه تمامًا، لكن لا أنسى أن مرارا وتكرارا لم تسمح بأحد داخل المدرسة أن يعتدي علي بالضرب، ودخلت في مشادة كبيرة مع إحدي المربيات الفضليات داخل المدرسة، بعد أن قامت بضربي بشدة، بسبب تأخري عن الدخول للفصل بعد انتهاء " الفسحة" فأخذتني إلى المدير وأحدثت مشكلة كبيرة جدا ، بسبب انهياري من البكاء وقتها، أتذكر كل تلك التفاصيل، أتذكر أنها كانت تذاكر لي حتى بعد الدراسة.
غادرت المدرسة الابتدائية إلى الإعدادية ومنها للمرحلة الثانوية، وانتهيت بالجامعة، وانشغلت بأمور العمل الصحفي الشاق وتركت أبلة سارة ولم أقابلها طيلة هذه الفترة، حتى بعد ما يقرب من 9 سنوات من التخرج قابلتها مرة واحدة، وإذا بي أجد نفسي أجري عليها، موجها لها النداء فتوقفت، ولكن لم تتذكرني فذكرتها بنفسي، وكنت سعيدًا وقتها على الرغم من أنها لمم تتذكرني إلا بعد أن عرفتها بنفسي، ولا أستطيع أن أصف لكم حجم سعادتها لكوني أحد أبنائها الذي فرحت بسماع أخباره، وسعادتي أيضا.
بلغوا أبلة ساره أني لم أنسها ولم أنس فضلها، بلغوها أن تلميذها وابنها ينقل لها تحياته، وأنه لم ينسها، وقولوا لها كل عام وأنتي بخير، وكل عام وأقباط مصر بخير، وكل عام وكل مصر بخير، تلك السيدة التي ضربت أعظم مثلا في المواطنة وحب الوطن، فنحن نسيج واحد لوطن كبير هو مصر.