الدستور في سوهاج.. 7 أيام في الجنة
لم يكن يخطر فى خيال أى واحد فينا، ونحن نصعد سلم القطار إلى سوهاج، لافتتاح أكاديمية «الدستور»، أننا سنعيش سبعة أيام فى الجنة.. جنة أهل طيبة.. كان الأمر مجرد فكرة طرحناها فى «قعدة قهوة» مع الزميل العزيز محمد الباز منذ شهور.. ثم تطور الأمر إلى «مشروع» لتدريب الطلاب فى جامعات مصر.. الأقاليم منها بالتحديد.. وقررنا أن تكون البداية من إعلام سوهاج، لأنه أقدم فروع الإعلام فى الأقاليم.. ثم تطور الأمر لفكرة أكبر، بأن نتجاوز أسوار الجامعة إلى الواقع المحيط بها. ومنذ اللحظة الأولى لوصولنا شعرنا بأن الروح الطيبة لأهل المدينة تفرش لنا الطريق بدفء حقيقى وعطش أكبر.
زملائى وأصدقائى أحمد الشامى، على سطوحى، مصطفى الجارحى، سامر عبدالله، محمود الحلوانى، والإعلامية التونسية د. عبلة الأسود.. علاء أبوزيد.. جميعنا يعرف بعضنا منذ زمن.. ذلك الزمن الذى لعب بنا وبأيامنا وذهب كل منا إلى طريق اختاره أو اختارته له الدنيا.. وها نحن نجتمع من جديد.. سبع ساعات من السفر مرت كأنها لحظة، بمجرد أن احتوانا ذلك الفرح الطفولى فى عيون شباب سوهاج الذين استقبلونا فى الفجر.
فى الصباح فوجئنا بذلك التجاوب المذهل بين طلاب قسم الإعلام.. وأساتذته الذين توافدوا للمشاركة.. كان العدد أكبر مما خططنا له.. وتصورت أن العدد سيقل فى اليوم التالى - لأنه يوم إجازة - وكانت المفاجأة أن العدد زاد.. واستمرت الفعاليات تصعد رويدًا رويدًا ليحاصرنا المئات من عمد القرى.. والأطباء.. والمحامين.. وكل منهم يعرض مشروعًا للتعاون مع «الدستور».. وحملتها لدعم معهد الأورام.. أو لمشروعها لتدريب طلاب الإعلام.. كان الأمر مدهشًا فى ورش التدريب.. الشامى يتألق ومن بعده سطوحى.. ثم علاء أبوزيد، مدير المذيعين بالشباب والرياضة.. ثم د. عبلة الأسود التى جاءت من صعيد تونس لتصنع حالة من البهجة غير المسبوقة ويلتف حولها بنات سوهاج طيلة ٢٤ ساعة.. وكانت الدعوة الكريمة التى سبق أن تلقيناها من محافظ سوهاج د. أيمن عبدالمنعم للمشاركة فى دعم مصنع صنع فى سوهاج حدثًا أكبر.. مجموعة من الشباب يقاومون الإحباط، ويصنعون من منتجات المدينة حلمًا قبل أن يصنعوا منتجًا يصلح لأن يتم تصديره لكل دول العالم.
بالمزمار البلدى والطبل ورقص الأحصنة، سبق السوهاجيون الجميع إلى استقبال النجم على الحجار.. الذى خرج من الاستوديو الخاص به فجرًا إلى مطار القاهرة دون نوم ليكون فى موعده هناك.. فرحة أهلنا هناك بوجود الحجار بينهم - وهى أول زيارة له للمدينة - سيطرت على مشاعر الجميع.. أكثر من ألفى سوهاجى يحاصرون مبنى المحليات الذى ازدحمت قاعته، وامتلأت تمامًا بقيادات ونواب وشباب وبنات ليس من المعتاد أن يتأخرن عن الذهاب إلى قراهن حتى العاشرة مثلما حدث.
٣ ساعات تقريبًا قضاها الحجار يتجول بين المحال، التى أقامتها المحافظة فى المعرض.. وكل خطوة نخطوها أجدنى أمام ما يشبه المعجزة.. طفل صغير لا يتعدى عمره العاشرة يخترع جهازًا لشفط المياه.. مجموعة من ذوى الاحتياجات الخاصة يطلقون دار نشر لكتب عميد الأدب العربى طه حسين.. ورواد التنوير.. وإبداعات الشباب وحتى مؤلفات أصحاب الجوائز الكبرى مثل ساق البامبو بطريقة برايل.. ونعرف أن هؤلاء الشباب المدهشين مهددون بإغلاق مشروعهم الفذ، لأنهم يحتاجون إلى مبلغ تافه - ٥٠٠ جنيه شهريًا - لدفع الإيجار للموقع الذى يعملون من خلاله.. منتجات حريرية على النول.. وقطنية خالصة تباع بأسعار زهيدة.. د. أيمن عبدالمنعم يشرح للحجار وضيوفه والجميع فى حالة من النشوة.. ثم ندخل إلى قاعة الاحتفال الأول، الذى رأت مؤسسة «الدستور» أن يكون باسم فؤاد حداد لتحتوينا بردته العطرة برسالة وصلت للجميع، كل شبر وحتة من بلدى.. حتة من كبدي.. حتة من موال».. ذلك الموال الذى تسرسب من حنجرة المبدع محمد عزت وهو يغنى «ياما حمام الواد على» سرق قلوب الجميع.. فتجاوبوا.. وغنوا وكأنها حالة صوفية سيطرت على المدينة بأكملها.. ليكمل محمود الحلوانى قصيدته الموجزة المدهشة سبحة التنويم المغناطيسى لنا جميعا فنفيق على «عرق» مصفى من مصطفى الجارحى الذى وصف أحدهم قصيدته بأنها «تاريخ جديد» لمصر.. ليصعد الحجار بعدها ويتجول فى تاريخ سرى آخر للبلد سجلته أغنيته الصعيدية.. مع كورال ابتدعته اللحظة نفسها من الحضور.. وبعفوية النجم الكبير يفاجئنا صوت أحمد عارف الذى صعد ليشارك الحجار غناء هنا القاهرة دون أى ترتيب مسبق.. وهى لمسة لا يفعلها سوى فنان كبير يؤمن بقيمة فنه وبلده، وبدور الفنان الحقيقى فى صنع جسر إنسانى وثقافى تصعد عليه التنمية التى حدثنا عنها بفرح محافظ سوهاج الذى أصر على أن يقيم عشاء خاصًا على شرف فريق أكاديمية الدستور.. ثلاثة مشروعات كبيرة تنطلق لحظة وجودنا فى تلك القاعة.. مصنع للسيراميك تكلفته مليار جنيه فى غرب جرجا.. ومصنع للحديد ومستلزماته.. ومصنع ثالث لتدوير المخلفات لإنتاج الطاقة.. سوهاج التى أهملت لسنوات طويلة.. تصعد مجددًا فى نفس اللحظة.. بنى محمد على مصنعًا للنيلة.. ومن بعده مصنعًا للغزل والنسيج أهدرناه فى الخصخصة ومصنعًا للبصل.. باعوه أيضًا.. هذا هو كل ما فعلته الحكومات فى ٢٠٠ سنة.. الآن ثلاثة مصانع كبرى فى شهور.. ساعات قليلة نحاول أن نخطف فيها «ريحة النوم» دون فائدة.. البرنامج حافل فى اليوم الأخير.
العزيز محمد الباز، رئيس مجلسى إدارة وتحرير «الدستور»، وحسن كامل، نائب رئيس التحرير، يصلان مع «طلعة الشمس» ليلتحقا بورش تدريب اليوم الأخير وسط فرح حقيقى من ٧٠٠ طالب استوعبتهم ثمانى ورش.. وأصبحت عشرًا بعد وصول الباز وإصرار الطلاب على ورشة تدريب عمل مع مصطفى الجارحى سبقتها ورشة التحرير الإلكترونى لمحمد عبدالله، لينتهى باختيار ١٥ طالبًا ممن شاركوا وأنجزوا فى تدريبهم العملى ليصبحوا اللبنة الأولى لفريق الدستور فى المدينة تمهيدًا لإطلاق «نسخة خاصة بالصعيد» كما أعلن الباز فى حفل الختام.. ثم زيارة كان مرتبًا لها نصف ساعة لمعهد أورام سوهاج امتدت لأربع ساعات أعلن خلالها الحجار عودته إلى سوهاج مجددًا منتصف الشهر القادم ليقيم حفلًا خيريًا يخصص دخله للمعهد.. ثم نسابق الساعات لنلحق بزيارة للدير البحرى.. حيث التف رواده من المصلين حول الحجار يشكرونه ويناقشونه فى أدق تفاصيل أغنياته الوطنية.. ثم نعود إلى قاعة الجامعة لنجد أكثر من ثلاثة آلاف طالب فى انتظارنا، وكرمًا لا يوصف من أساتذة نُجلهم صاروا جزءًا من «أكاديمية الدستور».. يناقشوننا فى كيفية تحويل المشروع إلى واقع دائم.. كل هؤلاء انصهروا فى صوت الحجار وهو يردد على مدار ساعتين« بحبك.. بحبك.. يا بنت الذين».
هل انتهى الأمر إذن؟.. هى البداية فقط.. هل أشكر الآلاف التى غمرتنا بمحبتها.. هل يجوز أن أشكر فريق جامعة سوهاج بقيادة د. صفا محمود.. أم أشكر د. عزة عثمان.. الدينامو الذى لا يأكل ولا ينام.. أم معيدى قسم الإعلام أسماء وإسلام وسامح.
أم الزميلين محمود عبدالعال صاحب المجهود الأوفر فى تنظيم كل ما جرى فى سبعة أيام.. وزميله إسلام نبيل الذى جاء من قنا ليكون واحدًا من الفريق حتى إنه لم يجد وقتا للنوم ليلقى نفسه على أقرب كرسى ليخطف دقائق ثم ينتفض ليبحث عن «فلاشة»!!
المحبة التى «فاضت» على وجوه الجميع د. أحمد عبدالله وأحمد الشندويلى وعشرات رافقونا حتى المطار.. فى رحلة العودة.. ربما تجدون بعضًا منهم على صفحات السوشيال التى تجاوزت مئات الآلاف.. وفى معاتبات أصدقاء ينتظروننا فى محافظات أخرى وكانوا يتعشمون أن تكون البداية من عندهم.. الأمر برمته يمكن تلخيصه فى قول فؤاد حداد:
«الشمس دقت على بابى
وفتحت الباب لقيت ألوف البشر
حاملين شجر ونسيم
وكلهم عيلة واحدة.. وكلهم أحباب
وكل ناحية جميلة
وكل مصرى عظيم
إصحى.. يا نايم.. إصحى!