مصر ولبنان.. التاريخ المشترك
جذبتنى إلى أحضان التاريخ، الزيارة الأخيرة للرئيس اللبنانى «ميشال عون» لمصر. تأتى هذه الزيارة بعد انتخابه رئيسًا للبنان، لتنتهى فترة فراغ رئاسى طويلة عانى منها لبنان، وعانت من آثاره بلاد الشام قاطبةً.
كما تأتى الزيارة لتؤكد من جديد الحتمية التاريخية للدور المصرى فى المشرق العربى.
ووجدتنى أسترجع آخر زيارة لى إلى لبنان، والجولة الهامة فى مدينة «جبيل» الأثرية. ولا أُنكر انتعاش ذاتى المصرية عندما عرض لنا المرشد السياحى المرافق مجموعة الآثار الفرعونية هناك، هذه الآثار التى تؤكد الحضور المصرى هناك منذ أقدم العصور. كما لعبت جبيل أيضًا دورًا هامًا كميناء للتجارة بين مصر ولبنان.
وشاهدنا أيضًا آثارًا تعود إلى زمن الحركة الصليبية، واحتلال الصليبيين لبنان وبلاد الشام عامةً، ولم ينته هذا الوجود الغاشم إلا بفضل خروج صلاح الدين الأيوبى بجيوشه من مصر إلى بلاد الشام، ثم كان القضاء على آخر جيوب الصليبيين على يد سلاطين المماليك «حكام مصر».
ولا يمكن أن ننسى دور محمد على وابنه البطل الفاتح إبراهيم باشا فى تاريخ لبنان الحديث، إذ يعتبر جل المؤرخين أن دخول لبنان وبلاد الشام تحت حكم محمد على هو البداية الحقيقية للتاريخ الحديث.
من هنا نستطيع أن نتفهم العبارة الشهيرة لجمال عبدالناصر فى كتابه الشهير «فلسفة الثورة» بعد عودته من حرب 1948: «لقد اكتشفنا أن رفح ليست آخر حدود مصر»، تأكيدًا للدور المصرى فى المشرق العربى. وعلى ضوء ذلك نفهم متابعة الدولة المصرية فى زمن عبدالناصر لمتغيرات ومتناقضات الحالة اللبنانية آنذاك، والتدخل المصرى أحيانًا حفاظًا على التوازنات الداخلية فى لبنان، أو درءًا للنفوذ الخارجى وتغلغله هناك. ولم يكن إنشاء مصر جامعة بيروت العربية إلا تأكيدًا على البُعد العربى فى لبنان فى مواجهة الجامعات الدينية أو المذهبية، وأيضًا الجامعات الأجنبية فى لبنان.
ويجرنا ذلك إلى الحديث عن العلاقات الحضارية بين مصر ولبنان، وهى العلاقات الأكثر استمرارية والأكثر عمقًا ودفئًا مقارنة بالعلاقات السياسية. وترجع هذه العلاقات إلى التاريخ القديم، ونجد ذلك فى العلاقات الوثيقة بين الحضارتين الفرعونية والفينيقية، وكيف عُبِدت الإلهة «إيزيس» فى لبنان. وفى التاريخ الحديث نجد صفحات هامة من التبادل الثقافى بين مصر ولبنان؛ هل نستطيع أن ننسى دور آل تقلا فى إنشاء جريدة الأهرام؟! أو دور آل زيدان فى إنشاء دار الهلال؟!
كما هاجر العديد من صفوة المجتمع اللبنانى فى فترات عديدة فرارًا من الاضطرابات الطائفية إلى مصر، واحة الأمن والتسامح فى المنطقة. ويقدم الأزهر الشريف دليلًا آخر على عمق الصلات الحضارية بين مصر ولبنان، إذ ضم بين أروقته «رواق الشوام» لاستقبال الطلبة والعلماء، ولعل أسرة الرافعى من طرابلس الشام خير دليل على هذا التاريخ.
وللسينما، والفن عمومًا، تاريخ طويل بين مصر ولبنان، منذ بدايات المسرح العربى، والسينما، وحتى الغناء، وعندما تعثرت السينما المصرية فى سنوات الستينيات لأسباب كثيرة، كانت بيروت هى الملجأ للفنانين المصريين. وهناك تاريخ طويل لحركة الكتاب والنشر بين القاهرة وبيروت.
لا أنسى كم كانت فرحتى أثناء افتتاح أحد المهرجانات السينمائية فى مصر بعد 30 يونيو، ومع عودة المهرجانات من جديد، عندما صرح أحد كبار المخرجين اللبنانيين بسعادته بقوله: «عندما تضحك مصر يضحك لبنان، بل العالم العربى كله».