قبل فوات الأوان!
فى مشهد دولى يعكس بوضوح الانحياز الغربى السافر لإسرائيل، تتغاضى قوى كبرى عن الجرائم والانتهاكات الممنهجة التى ترتكبها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين والعرب، لنجد أنفسنا أمام حالة جديدة من العربدة الإسرائيلية تجاوزت كل الحدود المتخيلة، وأصبحت تهدد بشكل مباشر الأمن القومى العربى، وتفرض واقعًا جديدًا على قواعد القانون الدولى ذاته.
من فلسطين إلى دول الجوار، تتواصل غطرسة الصهاينة، فلم تعد جرائم إسرائيل مقتصرة على الأراضى الفلسطينية، بل امتدت لتشمل دول الجوار المباشر وغير المباشر، اعتمادًا على مبدأ تدليسى لما تطلق عليه حق الدفاع عن النفس، من خلال قصف مخيمات النازحين بغزة بدعوى وجود عناصر مقاومة، دون تقديم أدلة حقيقية سوى ادعاءات غير قابلة للتحقق، ليس دفاعًا عن النفس بقدر ما هو ترهيب لكل الأطراف من مصير مماثل.
هذا المنهج الإرهابى امتد إلى لبنان، حيث استخدمت إسرائيل نفس الذريعة لقصف القرى والمناطق السكنية. أما فى سوريا، فقد وصل الأمر إلى مستوى آخر من الغطرسة عبر إلغاء اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، واحتلال المنطقة العازلة، وتنفيذ مئات الغارات الجوية لتحييد الجيش السورى وتدمير ما تبقى من قواته لجعلها دولة منزوعة السلاح تمامًا، بمنطق الدفاع الاستباقى عن النفس.
ما فعلته إسرائيل فى سوريا يؤشر لخطر داهم على الأمن القومى العربى. التأسيس لمبدأ يتيح لها التدخل عسكريًا فى أى دولة عربية إذا رأت أن التطورات الداخلية فيها تهدد أمنها، يهدد بتحويل الوطن العربى إلى ساحة مفتوحة أمام «سلام إسرائيلى» مفروض بالقوة. استسلام تام للإرادة الصهيونية ينفى تمامًا سيادة العرب أمام حق الكيان فى منع تطوير منظومات القوة الشاملة عسكريًا واقتصاديًا لأى دولة عربية من منطلق «حق الدفاع عن النفس»، وبالطبع مصر هى المقصودة فى نهاية المطاف باعتبارها القوة العربية الأكبر.
فى العام 2015، دعا رئيس مصر لإنشاء قوة عربية مشتركة على غرار حلف الناتو، الذى حمى أوروبا من مطامع الاتحاد السوفيتى التوسعية بالأخص طوال فترة الحرب الباردة فقط من خلال ضبط معادلات الردع دون مواجهات مباشرة.
كان يمكن لدعوة السيسى أن تكون نقطة تحول تاريخية فى مسار العمل العربى المشترك، لو أن العواصم العربية التقطت الإشارة فى وقتها، وتخلّت عن حساباتها الضيقة التى لطالما أضعفت الإرادة الجماعية. فالمبادرة كانت بمثابة جرس إنذار مبكر، يحذّر من انفلات الأوضاع الأمنية فى المنطقة، ومن دخول أطراف إقليمية كإيران وتركيا للعب أدوار أكبر فى غياب موقف عربى موحّد، وهو ما نراه اليوم ونعيش تفاصيله.
كعادة العرب الذين لا يعرفون الله إلا وقت الغرق كما يقول المثل الشعبي، قوبلت الدعوة بالتجاهل أو التردد من قِبل بعض الدول العربية، التى خضعت لحسابات آنية أو مصالح ضيقة، أو حتى لضغوط خارجية لا تريد لهذه المنطقة أن تمتلك أدواتها الدفاعية. القوى الدولية التى لطالما رعت الانقسامات العربية، وقفت وراء الستار، تعمل على إجهاض المبادرة، لأن وجود قوة عربية مشتركة يعنى استقلالية القرار العربي، وتحجيم القوى الإقليمية والدولية عن التدخل فى شئون المنطقة.
ماذا لو تبنى العرب تلك المبادرة فى وقتها؟ هل كانت إيران لتجد هذه المساحات الشاغرة لتملأها بسياساتها التوسعية؟ هل كانت تركيا لتجرؤ على العبث بأمن المنطقة وفرض أجندتها؟ هل كنا بحاجة إلى الاستنجاد بحلفاء خارجيين كلما اشتدت الأزمات؟
غياب تلك القوة فى ظل تصاعد الديناميات السياسية، ترك فراغًا استراتيجيًا مغريًا، سمح لكل الأطراف الإقليمية باللعب فى الساحة العربية، كلٌ وفق مصالحه وأجندته، بينما العرب يتفرجون من مقاعدهم الخلفية.
بعبارة أكثر وضوحًا، قوة عربية مشتركة كانت ستوفر الحد الأدنى من الردع، وتحمى الأمن القومى العربى من الانتهاكات المتكررة، سواء من إسرائيل أو من القوى الإقليمية الأخرى التى استغلت الانقسام العربى لتوسيع نفوذها.
لا يمكن توجيه اللوم للقوى الإقليمية والدولية التى أجهضت المبادرة، فالكل يعمل لمصلحته الخاصة، بل اللوم يقع على قادة العرب الذين لم يدركوا أهمية اللحظة، ولم يقرأوا التاريخ جيدًا. التاريخ الذى علّمنا أن التردد والتقاعس ثمنهما دائمًا أكبر بكثير من أى تكلفة للتحرك الجماعى. لو أن العرب امتلكوا الشجاعة آنذاك، لكانت خريطة المنطقة اليوم مختلفة تمامًا، ولكان العرب هم أصحاب اليد العليا فى تقرير مصيرهم، بدلًا من أن يصبحوا بيدق شطرنج على رقعة الآخرين.
معادلات الردع المختلة
لو قُدِّر لتلك القوة العربية أن ترى النور، لكانت معادلات الردع فى المنطقة قد تغيرت جذريًا. تلك القوة كانت ستمنح العرب أداة فعّالة لحماية أمنهم القومى، وفرض ميزان قوى جديد يجعل أى طرف إقليمى أو دولى يُفكر جديًا قبل التدخل فى شئون المنطقة أو تهديد سيادتها.
فى مواجهة إسرائيل، كانت هذه القوة قادرة على كبح غطرستها العسكرية، والرد على اعتداءاتها المتكررة بقدرات موحّدة، بدلًا من ترك كل دولة تواجه مصيرها منفردة. وفى مواجهة إيران، كانت القوة المشتركة ستغلق الأبواب أمام تمددها فى العواصم العربية، وتجعل من الصعب عليها أن تفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة، أما تركيا لم تكن لتجد لنفسها فرصة للعبث بمصالح الدول العربية، وفرض أجنداتها المتمحورة حول مشروع العثمانية الجديدة فى ليبيا وسوريا وغيرهما، والأهم أن وجود قوة عربية مشتركة كان سيمنح العرب القدرة على المبادرة، بدلًا من الاكتفاء بردود الأفعال. كان بإمكانها أن تُشكل مظلة لحماية الأمن العربى من التدخلات الخارجية، وأن تكون ركيزة أساسية لأى مفاوضات سياسية تُعيد للعرب موقعهم فى معادلات القوة الدولية، بدلًا من أن تتفاوض روسيا وتركيا وإيران مع الغرب على مصير دول عربية كسوريا وليبيا بينما العرب يشاهدون.
لم يعد من الأمر بد، على الدول العربية أن تعيد النظر فى استراتيجياتها لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية، والتدخلات الدولية. المطلوب ليس فقط تقوية الدفاعات العسكرية، بل أيضًا تبنى سياسات واضحة ومتماسكة على المستويين السياسى والدبلوماسي. يجب أن يكون هناك تفاهم عربى حقيقى يعيد ترتيب الأولويات، ويضع مواجهة التهديدات الإسرائيلية على رأس الأجندة.
التاريخ ملىء بالدروس التى تؤكد أن التهاون مع العربدة الإسرائيلية يؤدى إلى مزيد من التوسع والاعتداءات. من هنا، يجب أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة إعداد وتجهيز، ليس فقط لمواجهة عسكرية محتملة، ولكن أيضًا لتقوية الجبهة الداخلية العربية، وبناء تحالفات دولية تعيد التوازن إلى المشهد السياسي.
المواجهة المطلوبة ليست فقط من أجل فلسطين أو سوريا أو لبنان، بل هى دفاع عن مستقبل المنطقة العربية واستقلال دولها. هذه اللحظة تتطلب وحدة الصف العربى، وتحركًا جادًا يعيد الاعتبار للسيادة العربية فى مواجهة المشاريع الإسرائيلية والتركية والإيرانية قبل فوات الأوان.