رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرزة

هي المرأة اللبنانية العابرة للطوائف..  و العابرة للطائفية في وطنٍ طائفيًا بامتياز ! تماسك الوطن بفضل صموده وصمود شعبه في وجه الحروب الطائفية والتطاحن وساعده احتضان السيدة العذراء له في منطقة (حريصة ) على البقاء على قيد تلك الحياة حتى الآن.. فبركة مريم البتول هي من تنقذ لبنان دومًا.. وحب اللبنانيون للحياة والتشبث بها والانتصار لها ساعد ايضا في هذا الصمود حتى وان لم يستطيع هذا الشعب العظيم الانتصار لنفسه او لبلده الصغير الجميل الاستثنائي 
أرزة هي مثال حقيقي للمرأة اللبنانية بعيدا عن عمليات التجميل والمبالغة في ارتداء الملابس الفارهة وكل ممارسات التصنع البلاستيكي التي اشتهر بها ذلك الوطن المطعون لسنوات طويلة  ..فأرزة لبنان الحقيقية الاصيلة هي التي حملت على اكتافها هموم وشئون وشجون لبنان منذ السبعينات وحتى توقيت صناعة هذا الفيلم 
أرزة هي الرمز الحقيقي للبنان الصامد الشامخ الذي يعاني ولا تستطيع عمليات التجميل التخفيف من معاناته.. فاسم بطلة العمل كان موفقًا جدا في التعبير عن موضوعات تخص الهوية والجذور والانتماء وغزل ذلك في اطار قصة إنسانية تمس القلوب وتعكس صراع الإنسان مع ماضيه وحاضره وقلقه الدائم بشأن مستقبله.. فكان الفيلم لوحة فنية إنسانية تعبر عن علاقة الانسان بأرضه وواقعه  بأسلوب شاعري يمزج بين الواقع والخيال.. فالعلاقة بين الفرد وأرضه ومجتمعه وثقافته علاقة شائكة ومعقدة تم سردها بأسلوب شاعري عبر عن 
حال لبنان الذي مزقته الحروب ومزقه ملوك الطوائف.. فالطائفية في لبنان هي الجرح الغائر وهي معول الهدم الحقيقي لكل ما هو جميل واصيل في بلد جميل وأصيل 
و مخرجة العمل اللبنانية الشابة (ميرا شعيب ) في فيلمها الروائي الطويل الاول قدمت عملًا مميزًا يجمع بين السخرية الحادة (المضحكة المبكية ) وواقع مأساوي يسلط الضوء على تعقيدات الحياة اليومية في لبنان، حيث تتداخل الأحلام البسيطة مع العقبات الكبرى، وتتحول القضايا السياسية والطائفية إلى عوامل مؤثرة في تفاصيل تلك الحياة وفي حيوات شخوصها.. ويعكس الفيلم عبر عناصره البسيطة صورة مألوفة عن واقع مليء بالمفارقات لذلك نال الفيلم جائزتين في ختام الدورة ال ٥٤ لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.. الجائزة الاولى كانت جائزة ( يوسف شريف رزق الله ) لأفضل سيناريو للكاتبين (لؤي خريش ) و( فيصل شعيب) بجانب جائزة أفضل ممثلة لدياموند بو عبود والتي استحقت حقًا تلك الجائزة و عن جدارة..فالمخرجة اختارت سيدتان احدهما ( أرزة ) التي تحمل فوق كاهلها أود إقامة حياة اسرتها لتستمر الحياة..فهي المرأة الضعيفة قليلة الحيلة والقوية المستقلة في ذات الوقت والتي ترعى شئون نفسها بنفسها دون مساعدة من احد بل وترعى كذلك شئون شقيقتها (ليلى ) التي اصابتها تروما بعد رحيل زوجها 
و قامت بتنشئة ابنها الوحيد بمفردها بعد غياب الأب واختارت له اسم لا يعبر عن اي (طائفة ) كما كان اسمها معبرًا عن لبنان ذاته ولا شيء سوا لبنان
و طوال احداث الفيلم نشاهد مواقف لها علاقة بالطائفية والاستقطاب الذي تمارسه تلك الطائفة مع ابنائها ضد الطوائف الاخرى..  فنرى (أرزة ) وهي ترتدي تارة لباس أهل السنة في لبنان ثم لباس اهل الشيعة وهي تتحايل على احوال المعيشة كما ارتدت ما يرتديه المسيحيون كي لا نعرف ديانة (أرزة ) أو ديانة اسرتها حتى نهاية الفيلم وكان ذلك مقصودًا في الفيلم وفي السيناريو..  فأرزة وأسرتها هم  اللبنانيون.. هم اصحاب الارض واصحاب الوطن الواحد.. الوطن الموحد غير الممزق.. بلا طائفية وبلا فوارق.. (أرزة ) هي الام العزباء التي تكافح لتأمين حياة كريمة لها ولابنها المراهق "كنان" (يقوم بالدور الممثل السوري بلال الحموي) فكنان هو الفتى الضال العنيد الفاقد للهوية والفاقد لاي أمل في غدٍ أفضل ويتذمر دومًا  من ظروفه المحيطة رغم ان في أعماقه تدفق كبير للحياة والرغبة في السفر والهجرة للخارج ولديه كذلك نهم كبير  لحب ابنة الجيران (هذا الحب العذري الجميل ) والذي كان الشيء الوحيد الذي ينفث فيه ( كنان ) من احساسه بالظلم والتعاسة الدائمة بينما تعمل "أرزة" في إعداد وعجن الفطائر داخل منزلها المتواضع وتبيعها للزبائن، فهي لا تملك رفاهية المغامرة، كما لا تملك رفاهية اللامبالاة، إنها تفكر فقط في اليوم، في اللحظة، في الساعة الآنية، ولا تستطيع ترك الفطائر الساخنة حتى تبرد ويتذوقها أفرادًا محدودين من سكان الحي الذي تسكن فيه.. فأيقنت أنه لا مفر من التحديات القاسية التي يفرضها ضيق العيش، فلا عجانة كهربائية تسهل عملها في عجن الفطائر، ولا وسيلة نقل مريحة لتوصيل الطلبات مع المحافظة على طزاجتها وسخونتها.. خاصة بعد ملل ابنها من تنفيذ المهمة سيرًا على الأقدام، بالإضافة إلى عدم امتلاك وسيلة تسويقية لتوسع مصدر رزقها فخطر في ذهن ( أرزة ) فكرة شراء دراجة نارية لتلبية عدد أكبر من الطلبات.. ولم تجد سبيلًا لتحقيق ذلك سوى رهن سوار ذهبي لأختها ليلى مقابل بضع مئات من الدولارات تقدمها دفعة أولى لشراء الدراجة بالتقسيط رغم أن ذلك السوار هو آخر ذكرى متبقية لشقيقتها من زوجها الذي تعيش على أمل او ( وهم ) عودته وتتزين له يوميًا بأحلى الثياب وأفضل مساحيق التجميل ! 
و بالفعل تشتري أرزة الدراجة في عيد ميلاد (كنان ) الثامن عشر كهدية له وكوسيلة لتوصيل أكبر عدد ممكن من الطلبات يوميًا للزبائن.. لكن الابن  يصارحها بأنه لا يرغب في دخول الجامعة ولا يرغب في توصيل الطلبات وأن غايته هي السفر للخارج سعيًا لمستقبل أفضل مثلما فعل والده من قبل 
وفي رحلته لتوصيل الطلبات وبينما يحتفل مع حبيبته واصدقائه بعيد ميلاده تسرق دراجته! و تبدأ أرزة وكنان رحلةً غير محددة الوجهة بحثًا عن تلك الدراجة ليتنقلوا خلال تلك الرحلة بين معظم مناطق بيروت.. وبالتالي تتحول رحلة البحث البائسة عن الدراجة تلك الى بانوراما واسعة للتباين الطائفي في بيروت ولبنان تبرز خلالها نظرة كل طائفة للأخرى وحالة التشكيك وعدم الاطمئنان داخل المجتمع الواحد ويتنقل الثنائي من منطقة مسيحية إلى أخرى سنية إلى ثالثة شيعية وفي كل بقعة لا يكون الحال أفضل من سابقه
وبينما تسير ( أرزة ) في طريقها إلى إحدى المناطق المعروفة بالتجار في الدراجات النارية المسروقة تتعرض هي للسرقة مما يزيد الأمور تعقيدًا لكن ذلك لا يثبط عزيمتها فتقول: (كل حياتي والناس تاخد مني، ما راح خليهن هالمرة) إلا أن البحث لا يكلل بالنجاح هذه المرة أيضًا ! 
و تكمل أرزة رحلة البحث عن الدراجة لكنها تتلقى اتصالًا تعلم عن طريقه أن أختها اختفت ولا أثر لها فتبحث هي وكنان عن ليلى حتى يجدانها عند أنقاض البيت الذي كان لها وزوجها الغائب..و يعود الجميع إلى منزل (أرزة ) وكأنهم يعودون للبنان بعد الشتات ! و يبدو أن ( أرزة ) قد استسلمت للواقع وتوقفت عن البحث.. لينتهي الفيلم و( أرزة ) تقود دراجتها البخارية  بنفسها  بعد استعادتها بالحيلة..فما سرق منها استردته بطريقتها الخاصة حتى وان كانت تلك الطريقة التي استردت بها ما تملكه طريقة عشوائية لا علاقة لها بالقانون.. ففي ظل غياب القانون وفي ظل غياب العدل وغياب الدولة يكون كل شيء مباح !  
وتحمل الموسيقى التصويرية في الفيلم المتدفق الدافىء البديع ملامح موسيقى شعوب البحر المتوسط.. فنجدها ملائمة للطابع الموسيقي اللبناني والمصري بل واليوناني والإيطالي أيضًا والتي كانت عنصرًا هامًا في الفيلم وكان لها دور مهم في منحه مذاقًا خاصًا.. موسيقى الفيلم كانت من تأليف الفنان المصري (هاني عادل ) والذي فاز بجائزة احسن موسيقى مؤخرا في فعاليات مهرجان قرطاج ٢٠٢٤.